كنت أظن أنَّ القصيدة، والقصيدة وحدها، تبدأ بدندنة ايقاعية، بلحن ملتبس، بصورة مراوغة، بحنين لغامض غير مكتنهٍ، إلي أن التقيت غالب هلسا.
لا أدري في أي مناسبة قلت لصاحب الضحك هذه الكلمات القاطعة: أنتم، طبعا، كروائيين لا تكتبون مثلنا نحن الشعراء، بل تعملون كما يعمل المعماريون الذين لا يضعون حجرا فوق حجر إلاَّ وفق مخطط مسبق. لست متأكدا، الآن، من حرفية ما قلته لغالب، فقد مضي عليه وقت طويل، طويل جدا، ولكني شبه متأكد من مضمونه الحاسم الذي بدا كحقيقة علمية لا تحتاج ردا أو نقاشا. كأني قلت له إن حاصل ضرب اثنين في اثنين يساوي أربعة. نقطة علي أول السطر.
هكذا لم أكن انتظر من غالب هلسا، ذي الرأس المكلل بفضة المنافي سوي الموافقة الاوتوماتيكية علي ما قلت. ولدهشتي قال غالب، بتباطئه المعهود في الكلام ولكن بحسم لا يقل عن كلماتي: كلا. بل نعمل مثلكم كشعراء!
ثم أضاف إلي دهشتي دهشة ثانية: لا أبدأ كتابة الرواية بتصور مسبق، ولا بمخطط مرسوم، حتي أني لا أعرف، بالضبط، موضوعها. تكون في رأسي دندنة (بالضبط مثلما قلت عن القصيدة)، وأشباح شخوص، ولكني لا أعرف الشكل الذي ستأخذه الرواية ولا المصائر التي ستنتهي إليها الشخوص.. الحديث عن مخطط هندسي جاهز في ذهن الروائي قبل البدء بروايته محض خرافة.
كان ذلك قولا مفاجئا لي، وتقريبا لم أصدقه، فقد قلت في نفسي (وكنت يومها أحسب أن القصيدة أرفع أشكال التعبير الأدبي) إن الروائيين، ذوي النثر المسهب والمثرثر، يريدون التشبه بالشعراء الذين تقدح في مخيلاتهم الجامحة شرارات الالهام فتضيء ليل معاني لم تخطر علي البال إلا في شكل دندنة ملحّة وتدويم تعازيم غامضة في النفس.
لم أسأل، بعد حديثي ذاك مع غالب هلسا، روائيا كيف يكتب، أو كيف تتظهر، في عتمة صدره، صورة روايته، لكني كنت أطل، بين حين وآخر، علي كواليس الكتابة، وعالمها الخلفي، من خلال كتابات لكتاب عرب وأجانب، أو عبر حوارات معهم، تتناول طقوسهم الكتابية.. ولم يكن ما قالوه بعيدا، تماما، عما قاله غالب.
ہ ہ ہ
هناك أكثر من روائي عربي مهتم بـ معمل الكتابة لدي الروائيين والشعراء الأجانب (المعلمين الكبار خاصة)، من بينهم القاص والروائي الأردني الياس فركوح الذي نشر كتابا ضم حوارات مع كتاب أجانب كبار تتعلق، تحديدا، بطريقة عملهم وطقوسها. حاجة الروائي، أو الشاعر العربي، إلي معرفة معمل الكتاب والشعراء الأجانب أشبه بـ تثاقف طقوسي ، أو اطمئنان إلي وجهة في الكتابة وكيفياتها، ولعله لم يبرح حالة التلمذة التي نجد فيها أنفسنا حيال منجز لم نبلغ شأوه البعيد. وهو، إلي ذلك، جزء من سيرة، ولكنه ليس مبذولا بذل أوجه حياة وقراءات الكاتب. ففي سير الكتاب والشعراء الذاتية نمر بـ معمل الكتابة ولكن فضولنا يظل مشرئبا. فبعض الكتاب يفضل أن يبقي باب معمله موصدا. وبعضهم الآخر يسمح لنا بعبور سريع لا نتمكن معه من معرفة محتويات هذا المعمل، ولا ما يؤثثه من أدوات . فهناك من لا يرغب بالنظرة الفضولية التي تتلصص علي أكثر أمكنته سرية وعزلة. هناك من لا يحب أن يري الآخرون الأوراق الملقاة علي الأرض، السجائر المدخنة أبدا، فناجين القهوة التي تتكوم علي الطاولة، النبض الذي يصعد ويهبط، لحظات النور والظلمة التي تشعُّ مع القاء القبض علي معني مراوغ وتقتم مع عودة الشباك فارغة. ثمة كتاب يكتبون وهم منبطحون أرضا، آخرون يكتبون وهم في الشورت ، بعضهم بلحي غير حليقة، وبعض آخر معطر ببدلة كاملة كأنه ذاهب إلي موعد غرامي. تلك أشياء حميمة وخاصة وليس كل الكتاب والشعراء يرغبون بزيارة متطفلة، فالوليمة الجاهزة علي المائدة هي ما ينبغي أن يراه الطاعمون وليس المطبخ.
ہ ہ ہ
في إهداء كتابه الجديد عمل الكاتب، الكاتب وهو يعمل كتب القاص والروائي المغربي أحمد المديني إليّ ما يلي: أحب أن أهديك هذا الكتاب تحديدا لأني أحس بأني مدين لك بصدوره. فقد كنت أرسلت اليك فصله الأول وحُجب، وحين التقينا صدفة في معهد العالم العربي (بباريس) ذكرت لي، عرضا، أنك لم تنشره لأنك شعرت أنه جزء من عمل كامل. أصدقك القول أن هذا ما حفزني علي المضي فيه الي الحد الذي صار بين يديك. شكرا إذن أن حجبته، فالبنشر أو دونه، الكتاب يعمل ، والباقي لغو وتفاصيل نافلة .
لم أورد إهداء أحمد المديني إليّ، الذي يحتمل شكرا فعليا أو شكرا مبطنا بعكسه، إلاَّ لأنه ينسجم مع دوافع الكتابة، وربما كواليسها، حيث يضعنا الاهداء أمام أمرين: الأول أن محررا ثقافيا لم ينشر (وليس حجب) مقالة ظنها جزءاً من عمل متسلسل.
والثاني: ان كاتبا لم يكن في جعبته كتاب بل مقالة في ثيمة فلما لم تنشر عكف عليها حتي أصبحت كتابا. هكذا فزنا، في كل الأحوال، بكتاب مميز، في بابه، ينضم الي المكتبة العربية، لكن هذا الكتاب الجذاب جعلني أفكر، من جانب آخر، بحالة التلمذة إزاء الآخر التي لا نزال علي مقاعدها الخشبية، إذ لم يورد المديني، في كتابه الذي يكشف جانبا من معامل الكتاب، مثالا عربيا واحدا. فهو لم يجد، حسب مقدمته، شيئا يذكر علي هذا الصعيد. فليس، علي ما يبدو، لدي الجالس علي مقعد التلمذة ما يقدمه.. غير الاصغاء.
غير أن هذا ليس موضوعنا، الآن، رغم كونه موضوعنا ، بل الموضوع الذي ينبغي أن نفكر فيه أكثر من غيره، لذلك سأتركه لمن هو أقدر مني علي التصدي لسؤاله واتوقف عند تجربة تهمني، شخصيا ومن زاوية محددة تماما. إنها تجربة الكاتب الهندي التريندادي البريطاني في. إس. نايبول حائز نوبل . ليس في الفصل الذي يخصصه أحمد المديني لنايبول، هذا الكاتب الاشكالي مختلط الثقافات والانتماءات المعقدة، اطلالة علي معمل أو كواليس خلفية، بل حيرة وقلق حول علاقة الشكل الأدبي بالواقع، أو بالحقيقة. فقد طلع علينا نايبول، قبل نحو خمس عشرة سنة، بصرخة تعلن موت الرواية ، بعد أن وضع عددا معتبرا من الروايات التي لاقت حظوظا مختلفة من النجاح. ليس من اخفاق وفشل طلعت تلك المقولة الصارخة. فهو كان، حينها، من أكثر الروائيين الذين يكتبون بالانكليزية شهرة وتواصلا في الاصدارات. ليس من انعدام قدرة، فالرجل أثبت قدرة فائقة في الكتابة الروائية. لعل تلك الصرخة طلعت من ضيق حيال الشكل الروائي علي استكشاف الواقع، أو الوصول الي حقيقته. قال نايبول في احد حواراته الصحافية ان الكاتب الذي يمضي عمره في كتابة الرواية قد يصل الي حد تزييف المادة التي يتعامل معها. فالشكل الروائي سيجبره علي تعامل محدد مع هذه المادة، أن يجعلها، مثلا، درامية أكثر مما هي عليه ليلبي، ربما، نهم السوق. هربا من ضيق الايهاب الروائي واكراهات الشكل والاسلوب انتقل نايبول الي الكتابة غير الروائية: الرحلة، السفر في الأمكنة، معاينة الواقع، فحقق جملة كتب أثارت أسئلة واشكالات لم تتوقف تقريبا، خصوصا، كتاباته عن إيران والهند والكاريبي. لم يتوقف نايبول، نهائيا، عن كتابة الرواية، فقد نشر أكثر من رواية بعد اعلانه موت الرواية غير أن استمراره في الكتابة الروائية لم يجعله أقل شكاً في محدودية شكلها، في جبريته، في اكراهاته علي صنع حياة وواقع متخيلين فيما الحياة والواقع أمام أعيننا.
لعله القلق ذاته، الحيرة نفسها حيال الشكل الأدبي الصارم (والقصيدة أكثر ضيقا من الرواية علي هذا الصعيد) وعدم قدرته علي الاستجابة لواقع وحياة يفيضان بالأسئلة المبرحة هما اللذان جعلاني، شخصيا، أضيق بشكل القصيدة المعطي، وأشك بقدرتها علي القبض علي حقيقة ما، فكان لجوئي إلي كتابة الرحلة، كتابة السرود المتقطة تقطع الحياة ذاتها. وهذا موضوع آخر