عاش ياسر عرفات ورحل وما زال سرا غامضا، والغموض من حول الرجل لم يتم فك غيبه. من أولئك الذن يشككون بنسبه إلى أي عائلة فلسطينية أساساً، ويعتبرونه يهوديا مغربيا خدم إسرائيل، وصولا إلى من يعتبرونه زعيما لا يشق له غبار، وزعيما وطنيا غير مطعون فيه أبدا.
آخرون يعتبرونه متنازلا عن ثلاثة أرباع فلسطين لليهود معترفا بحقهم وحقوقهم، وهناك من يعتقد أيضا أنه الأب الشرعي والوحيد لمشروع الدولة الفلسطينية التي لم تر النور حتى الآن.
لم أعرف عرفات إلا من خلال مهنتي، وعبر محطات عابرة، ذات مرة وفي فندق الأردن وخلال استضافة عمان للمصالحة اليمنية مطلع التسعينيات جاء عرفات الى فندق الأردن لزيارة رؤساء يمنيين سابقين.
إذ دخل الى لوبي الفندق منعنا الحرس المرافق من إيقافه وتوجيه أي سؤال له، وتكرر ذات الأمر عند خروجه، لكنني أوقفته إذ سألته بحق فلسطين عليه أن يتوقف ويجيب على سؤالي الصحفي، وكنت في عامي الأول في هذه المهنة، فتوقف وأجاب مطولا، وسط نظرات غضب حمراء من مرافقيه و العسكر الذين حقدوا عليّ بسبب هذه الحيلة العاطفية، اذ توقف بعد أن سألته بخاطر فلسطين عليه، فلم يستطع إلا أن يتوقف.
ثاني المرات في رام الله، وكنّا وفدا أردنيا يضم رئيس مجلس النواب، ونوابا وصحفيين، وقد عدنا من الخليل لتونا يوم سبت، ولأننا زرنا الحرم الابراهيمي يوم سبت فـإن المستوطنين أمطروا سيارات الوفد الاردني بالحجارة، وتم اطلاق الرصاص ضدنا في الهواء، وانسحبنا وسط رعب شديد.
عرفات الذي استقبلنا في رام الله كان غاضبا بشدة من مسؤول امني فلسطيني لكونه اختار السبت المخصص لليهود لزيارة وفد اردني، وكان عرفات يصرخ من شدة الغضب في وجه المسؤول الأمني، قائلا له: تريد أن تقتلهم وتجعلنا نحمل مسؤولية دمهم، تريد قتلهم وتجعلنا متهمين لاحقا بأننا نصبنا هذا الفخ لهم حتى يذوقوا طعم الاستيطان والعدوان، وأمضى عرفات يومها جلسته مرتجفا، من شدة الغضب.
كانت أهم مرة تحدثت فيها مع عرفات هاتفيا، وهو في مقره في رام الله، تحت الحصار الإسرائيلي، والمكالمة تمت عبر هاتف خلوي لصديق، وكنا في طريقنا ليلا للعشاء في إربد في مناسبة، وفي الطريق طلب الحديث مع عرفات، وقدمني إليه هاتفيا، فسألته عن وضعه، فبدأ يتحدث عن الحصار في مقره في رام الله، وكيف ان الكهرباء مقطوعة، وصوت طائرات الهليكوبتر فوق مقره طوال الليل، طالبا مني أن أسمع عبر الموبايل صوت الطائرات؟!
توقع ليلتها أن يتم اقتحام مقره في أي لحظة، لكنه أضاف يومها جملة مهمة، إذ قال: إن الانسان مثل القمر، يولد هلالا، ثم يكتمل بدرا، ثم يبدأ بالتناقص، وحياة الإنسان بيد الله فقط. وبالفعل بعد توقيت المكالمة بأيام تعرض مقره لهجوم بالدبابات والجرافات الاسرائيلية على مرأى من العالم، وفي بث تلفزيوني مباشر أيضا!!
تستذكر عرفات مع الضجة حول رحيله، والغموض الذي لفّ رحيله، والقصة واضحة جدا، ولا تحتاج لأذكياء لحل رموزها، فالرجل تم قتله عبر السم، ولا بد من خرق أمني حتى يتم القتل، سواء عبر أحد الذين حوله، وربما عبر طعامه أو الدواء دون خيانة أحد.
دوافع القتل تبقى غائبة، وهناك أحد احتمالين أولهما: القتل من باب المنافسة والصراعات داخل الحلقة المحيطة به، أو القتل على يد الاحتلال لأجل التصفية الجسدية والسياسية.
هوية القاتل ليست مهمة تحديدا، بل الأهم أن نعرف لماذا تم قتله، وهذا هو السؤال الأكثر حساسية، بخاصة أننا قد نكتشف أن القاتل قد يكون إسرائيليا، فيما المستفيد قد يكون فلسطينيا، وعلى هذا علينا أن نفكر بدافع القتل، قبل هوية القاتل.
رحل تاركا خلفه غمامة من الغموض، وشبح عرفات لا يريد أن يرحل من مقره، ولا من فوق رؤوس المسؤولين الفلسطينيين الذين ظن بعضهم أنهم دفنوه حيا، فيما لا يزال حاضرا بقوة. الدستور