وفي تراثنا الشعبي خبر عن بائع رماح ودروع، كان يطوف في المدن والقرى مروجاً لبضاعته، وفي محاولة لإثارة اهتمام الناس بها، كان يمسك درعاً من دروعه، ويعرضه بفخر، وهو ينادي صائحاً: إنها درع قوية، مُزرّدة، أقوى من الفولاذ المسقّى، تحمي الصدر، وتقي الظهر، ولا تستطيع الرماح اختراقها، تفل السيوف، وترتد عنها السهام، وتحمي الأبطال في الوغى.
الناس كانوا يقبلون على شراء دروعه كلها. ثم يمسك الرجل بعد ذلك برمح من رماحه، ويعرضه صائحا منادياً: رمح متين، فاتك، يخترق الدروع، كما تخترق السكين قطعة الزبدة، ولا يصمد أي درع أمامه، فيقبل الناس على شراء الرماح، وهم يتصورون أنهم تسلحوا بدروع لا تستطيع الرماح اختراقها، وحملوا رماحاً تخترق كل الدروع، وأصبحوا في مأمن من عاديات الحرب.
ذات مرة سمع أحد الحكماء هذا التاجر، الذي يروج لدروعه ورماحه، بكلماته المعهودة، فنظر إليه ساخراً: ماذا يحدث يا سيدي، لو أننا صوبنا رماحك إلى الدروع التي تبيعها، هل تخترقها، أم لا؟!، فبهت التاجر الثرثار، ولم ينبس ببنت شفة!.
ونتذكر هنا الفارس الهمام عمرو بن معدي كرب الزبيدي، الذي ملك سيفاً يُلقب (الصمصامة)، وذات مرة أراد أعرابي أن يجرب السيف ويختبر قوته، التي راجت سمعته في الصحراء، فأمسك به، وضرب جذع شجرة، فلم يترك فيها أثراً إلا كنفخ على بلاط، فقال لعمرو ساخراً: يقولون إن سيفك قاطع، وها هو لم يفعل شيئاً. فقال عمرو: قوة السيف من قوة اليد التي تحمله. وأنت أخذت السيف، ولم تأخذ اليد، التي تضرب به!.
فهل صحيح، إن عبارات تجار الكلام خدعتنا، إلى درجة أننا بتنا نعتقد أن الدروع هي تحمي صدورنا وظهورنا، والرماح كفيلة باختراق صدور خصومنا وأعدائنا، أم أن الأمر كما قال عمرو: إن قوة السيف والرمح والدرع من قوة اليد التي تحملها؟!.
وهل صحيح أيضاً، أن الفيصل في حياتنا المشروخة بين رماح ودروع وبيوع، ليس بالخطط والمشاريع والأفكار الثرية والعظيمة، التي تجتاحنا كل لحظة، إنما في من يحملها، أو يقدمها، أو يركزها في أرض الصدق؟!.
دعونا نتذكر عمرو، ونتحسر عليه.
(الدستور)