إلى متى يعيش الأردن كدولة نفطية؟!
رنا الصباغ
20-11-2013 02:09 AM
بعد عامين من المماطلة واللعب على وتر خشية الشعب من الفوضى والعنف اللذين اجتاحا دول التحول العربي، صاغ المسؤولون هنا وصفة خاصة بـ"الأردن" للانتقال صوب إصلاح سياسي آمن ومتدرج، يتطلب دعم الحكومة والبرلمان خلال السنوات الثلاث المقبلة.
هذه الرسالة وصلت إلى شرائح المجتمع، بأحزابه وتياراته السياسية، منذ انقلاب الجيش المصري على محمد مرسي، أول رئيس منتخب يأتي من رحم الإخوان المسلمين؛ وأيضا التحضير لمؤتمر "جنيف2" حول سورية. وقد هيأ كل ذلك الأجواء لإسكات ما تبقّى من الحراك المجتمعي الذي فشل في بلورة خطّة عمل بديلة مقنعة.
في الأثناء، تستمر سياسة "العصا والجزرة" مع المعارضة بمختلف اتجاهاتها، مع اتخاذ قرارات "تجميلية" لشراء الوقت، كلما صدر انتقاد من المجتمع الدولي يتناول قضية محدّدة؛ مثل معاملة نشطاء سياسيين، وتوقيف صحفيين بتهم غامضة، ودور محكمة أمن الدولة، وخنق الحريات الإعلامية ومحاصرة المجتمع المدني، وتبادل المصالح بين الحكومة والبرلمان لضمان رضى الطرفين.
لكن تلك المخارج لا تعفي المسؤولين من ضرورة التعامل الجاد مع تحدي الاقتصاد والإصلاح المالي، وترهل القطاع العام، واحتكارات القطاعين الحكومي والخاص. إضافة إلى تحديد النظام الاقتصادي المطلوب، في غياب توافق مجتمعي حول مفهوم الإصلاح السياسي وحدوده.
فالأزمة الاقتصادية وتداعياتها المجتمعية تبقى قنبلة موقوتة، قد تنفجر في أي لحظة مهددة أمن البلاد واستقرارها.
مناسبة هذا التذكير تتصل بما فجّره مؤتمر صحفي لوزير المالية، د. أمية طوقان، كشف فيه، قبل أيام، مخاطر موازنة العام 2014، وحجم الإنفاق الحكومي المتوقع، بعد سلسلة علاجات مرّة، في مقدمتها إلغاء الدعم عن المحروقات، وزيادة تعرفة الكهرباء، ومستقبلا رفع أسعار المياه. فكأن القرارات الصعبة -التي سرّعت وتيرتها حكومة د. عبدالله النسور- في واد، وانعكاسها على موازنة الدولة في واد آخر؛ رغم ارتفاع الكلف الشعبية والسياسية لتلك القرارات.
فحجم الموازنة العامة لم ينخفض، بل زاد دون حد أدنى من الانسجام مع الإمكانات المحلية ومحاولة الاعتماد على الذات، بدلا من الارتهان لإملاءات المانحين وأجنداتهم السياسية والأمنية والاقتصادية.
فالحكومة ماضية في زيادة حجم الإنفاق، رغم الوعود المبدئية بأن تحرير أسعار المحروقات سيوفر 500 مليون دينار من أصل 800 مليون دينار سنويا، بعد رصد 300 مليون دينار من الوفر المتحقق لدعم الشرائح الأقل حظا. فيما كان من المفترض أن تنخفض النفقات، بموجب هذا القرار، بواقع نصف مليار دينار. فأين تسرّب هذا الوفر؟
بيت القصيد أن الإنفاق سيبلغ ثمانية مليارات وستة وتسعين مليون دينار في العام المقبل، صعودا من 7.1 مليار دينار في العام 2013. معطوفا على ذلك، تبلغ موازنة 63 مؤسسة مستقلة 1.8 مليار دينار، وليصل إجمالي الإنفاق العام إلى 10 مليارات دينار. فكيف يزيد حجم الموازنة العامة مليار دينار، لحكومة قرّرت المضي في سياسات تقشف غير شعبية، فرضت بموجبها ضرائب جديدة، وحرّرت أسعار المحروقات وسلع أخرى والحبل على الجرار؟ ولماذا لم تقلّص نفقات المؤسسات المستقلة عبر سياسة الدمج أو الإلغاء؟ ولماذا لا تقتطع الحكومة من موازنات دوائر ومؤسسات أخرى تبقى خارج أطر المراقبة؟
بالتزامن، لم يتراجع العجز كقيمة مطلقة العام 2013، في ظل تراجع النفقات وزيادة الإيرادات. ولن يتراجع في العام 2014.
فهل من مسؤول يقدم شرحا مقنعا أذكى من القول إن زيادة النفقات تعود إلى خدمة الدين، وموازنة المؤسسات المستقلة، و"تلبية مطالب شعبية" بتثبيت 3900 عامل مياومة في البرلمان والبلديات والجامعات الرسمية؟! وهي حجّة تأتي رغم أن الحكومة تتحفنا بأسطوانة التوقف عن التعيينات الاسترضائية غير المبررة التي عمّقت ترهل القطاع العام وقلّة إنتاجيته، مع ازدياد العداء للمستثمرين وأصحاب رؤوس الأموال.
إذن، لنكف عن القفز بين المسارات من دون هدف، ولنضع الإصلاح الاقتصادي على رأس الأولويات.فنحن بحاجة إلى خريطة طريق للاقتصاد الوطني والتعليم والتشغيل، تقودنا إلى أين سنصل، مثلا، بعد سبع سنوات من اليوم، عندما يتضاعف عدد سكان البلاد، مع المديونية ومعدلات الفقر، وكيف سنواجه الاختلالات المالية والهيكلية في سوق العمل؟ بالتزامن، نحتاج خطة عمل لدعم التحول صوب الحاكمية الرشيدة قولا وفعلا، لعلّها تُسكت الأقلية من القوى المطالبة بإصلاحات سياسية عميقة غير مطروحة حاليا على الطاولة.
وفي البال عديد أسئلة؛ أهمها: إلى متى نتصرف وكأننا دولة خليجية قادرة على مواصلة سياسة الريعية المبنية على كسب الولاء، مقابل وظائف غير منتجة، وامتيازات ومكارم سياسية لن تدوم ولن تضمن الأمن والتنمية المستدامة؟
الحكومة كما المجتمع، يعيشان فوق طاقتهما، وبإنتاجية متدنية، ومستويات تعليم وخدمات صحية وبلدية في تراجع بوتيرة مرعبة. وخزينة الدولة موجودة لتمويل احتياجات الحكومة ومعاشات وتقاعد أزيد من 900 ألف شخص يعتمدون على الوظيفة في القطاع العام، يعيل كل منهم ثلاثة أفراد على الأقل، مقابل إنتاجية أعلى في القطاع الخاص الذي يرفد جزءا كبيرا من واردات الخزينة.
هذه هي الكارثة بعينها. إذ إن حوالي 4 ملايين من بين 6.5 مليون نسمة، يعتمدون على خزينة الدولة كل شهر، بينما تموّل عوائد القطاع الخاص في الغالب رواتب موظفي القطاع العام ذي الإنتاجية المتدنية، والمعادي لرأس المال، بسبب انطباعات بقيام تحالف مصالح بين رموز القطاع الخاص والسلطة.
ثم يأتي جيش العاطلين عن العمل -وغالبيته من الشباب وخريجي معاهد وجامعات تهتم بالكم على حساب نوعية التعليم- بعد أن قرّرت وزارة التربية التعليم إلغاء امتحان كان يتقدم له طلبة الصفوف الإعدادية ليتم استكمال مسيرتهم؛ إما بالتوجه إلى التعليم الثانوي بفرعيه العلمي والأدبي، أو التعليم المهني. فكم من عائلة خارج العاصمة تشتكي من تكدس أبنائها بمعدل ستة أفراد- كلهم عاطلون عن العمل، لأنهم لا يقبلون غير وظيفة حكومية، أو في قطاع خاص يمنحهم ضمانا اجتماعيا وتأمينا صحيا وراتبا معقولا.
مقابل ذلك، تسرح كتائب من العمال العرب والأجانب للعمل في المنازل والمزارع والمصانع. فأين القيمة المضافة لاقتصاد منهك؟
خلاصة الحديث: إن مواصلة المقاربة الريعية لن تدوم، لأن الأردن ليس دولة نفطية.لا بد من الانتقال إلى دولة الحداثة، وعمادها المساواة في الحقوق والواجبات من دون منّة من أحد على أحد، إلا بمقدار ما ينتج ويدفع من ضرائب ويلتزم بالقانون، مقابل إخضاع المسؤولين لمساءلة البرلمان وديوان المحاسبة، ولمراقبة المجتمع المدني والإعلام. كم قضية فساد "لفلفت" أو "جُمّدت"؟ وكم من مسؤول عيّن من دون وجه حق، على قاعدة تبادل المنفعة وضمان "الثقة" النيابية، على حساب الحق والقانون ومصلحة الوطن؟!
وحدها المواطنة الإيجابية، المبنية على المساواة والولاء والانتماء، هي الطريق الأقصر لإخراج الاقتصاد من كبوته، وحل أزمة الهوية السياسية بانتظار تسوية القضية الفلسطينية.
المطلوب أيضا فك الاشتباك وإنهاء حال العداء بين القطاعين العام والخاص، وتحديد هوية وشكل النظام الاقتصادي الذي نريد، مع ترشيد القطاع العام وزيادة إنتاجيته، بدلا من تخصيص غالبية الإنفاق الحكومي لرواتب الموظفين والمتقاعدين.
فالأردن بخصوصيته الديمغرافية والجيوسياسية- لا يمتلك ترف تجميد الإصلاح السياسي، مقابل الصرف بسخاء على الشعب وعاداته الإستهلاكية.
لنضع أرجلنا على الأرض، ونستفيق من عالم الأحلام.
(الغد)