التانغو ليس مجرد رقصة، انه مصطلح سياسي ايضا، وهذا ما يعبر عنه في الغرب بانه رقصة التانغو بحاجة الى اثنين، وما من احد يرقص مع نفسه او ظله، وقد يكون العرب وحدهم من اختصروا فلم التانغو الاخير في باريس بدقيقتين هما المشهد الجنسي الذي لم يرد الفنان الراحل والمثقف مارلون براندو ان يستخدمه لأغراض رخيصة، وما اثار لدي هذه التداعيات عن التانغو هو الكلام المتكرر عن الحداثة والافراط النظري في الثرثرة عن الديمقراطية وكأنها حجر كريم أو ايقونة، وحقيقة الامر ان تسعين بالمئة على الاقل من يكتب في هذا السياق هو حول الديمقراطية او عنها وليس منها، لانها نبات يعيش في تربة اخرى.
ما كتب عن الحداثة بالتحديد منذ نصف قرن هو اشبه برقصة تانغو لكن بين رجلين وليس بين رجل وامرأة، وعلى ايقاع الربابة او الشّبابة، لان هذه الاطروحات معزولة عن وعي شامل ومفارق للسائد وكأن الحداثة قرار بيروقراطي، او جملة من الطقوس الاجتماعية والمظاهر، يستحق من يقوم بها عضوية الانتساب الى الألفية الثالثة، والحداثة التي انتهت الى اعادة انتاج القديم وفاقد الصلاحية عولجت بعزل عن انماط الانتاج الاقتصادي ونسي المستغرقون في هذا الشجن ان انماط انتاج ريعية واخرى شبه رعوية لا تنتج الا نظما باترياركته تتأسس على الوصاية وتحرم الشعوب من حق بلوغ الرشد السياسي!.
وهناك امثال في العديد من الثفافات عن مثل هذا التظاهر والمحاكاة منها ما يقوله الفرنسيون وهو اقشر الرّخام يظهر لك الطين وربما الدود تحته، ولدينا نحن العرب ما هو اوضح عن ثنائية السخام والرّخام لكن من يجرؤ على كشط قشرة الرّخام وأية اظافر تقوى على هذه المهمة.
وقد شد انتباهي صديق غير عربي عاش زمنا في العالم العربي عندما قال لي ان اليسار واليمين في العالم العربي بينهما قاسم مشترك، هو التعامل مع المرأة، ويبدو ان هذا الصديق جرب بنفسه ورأى ان اكثر الناس ادعاء باليسارية يرسبون في اول اختبار له صلة بالمرأة .
لقد أجهض مشروع التحديث او النهضة الذي شرع فيه كوكبة من النهضويين والتنويريين العالم في القرن التاسع عشر بحيث اصبح ذلك التنوير كما لو انه حدث من ثقب ابرة كما يقول د. رفعت السعيد واقرب تشبيه لاخفاق مشاريع النهوض هو نظام الموجات في البحر، فهي تتعاقب وتوشك ان تصل الى الشاطىء لكنها سرعان ما تنكسر وتعود، ونحن نرجع الى المربع الاول وبداية السطر في كتاب الحداثة كل عشر او عشرين سنة، ويصدق على هذا الوضع مثل فجّ لكننا نضطر الى استذكاره هو ما يجمعه السعدان يضيعه الجحش، وسبب ذلك بدون مواربة او التفاف هو ان التخلف بنيوي وقد تفشى في كل خيوط النسيج ولولا ذلك لما انتج هذا التخلف فسادا على غراره هو ايضا بنيوي ومثبوت في ادق تفاصيل الحياة.
من حق اي منا في هذا الاغتراب القاسي ان يرقص التانغو مع نفسه، حتى لو قيل عنه بانه فاقد للرشد لان رقصة التانغو على ايقاع الربابة او الشبابة هي ادق توصيف لحداثة زائفة!!.
(الدستور)