بعض رؤساء الحكومات يحاولون تقزيم أوطانهم، ليرتفع شأنهم ويحسون بالعظمة ويشعرون بنشوة النسر، الذي ينظر الى قاع المدينة وهو يحلق عاليا لايرى مانراه ولانرى مايراه, فالعيون التي لاترى إلا ما هو أمامها، هي عيون لا ترى شيئاً, يرانا كفئران تعيش وتعتاش على فتات بقايا فضلاته, ويحسّ بالغبطة انه أكرمنا وكرّمنا بذلك, فنحن نشكل جزءا من اهتمامه ولعلّه لايستهلك خليّة واحدة من خلايا دماغه من أجل التفكير بماضينا المنهزم وحاضرنا الأليم ومستقبلنا المظلم .
يا أيّها النسر المحلق عالياً بعيداً انت ولست قريب لتسمع أوجاعنا وآهاتنا وصراخ أطفالنا وبكاء كبارنا الذين لم يبكوا إلا مرة واحدة وقت النكبة ، فقد جعلتهم يبكون كل ساعة لما وصل إليه الحال. لم يعد الوطن هو الوطن لم تعد الرجال هي الرجال لم تعد الحرية هي الحرية، حتى خبزنا بات سراباً، نجوب الوطن بحثاً عنه بما تبقّى لدينا من كرامة .. اهبط ايها النسر اهبط من عليائك لترى .. اهبط من عليائك لتسمع .. اهبط من عليائك لتحسّ بطعم المرارة، التي نتجرّعها مع كل شروق شمس على يديّ امرأة متلفحة بأطفالها، رفعت كفيّها بالدعاء لصاحب الروح أن يفرج كربها وكرب من سكن قاع المدينة, الممزّقين المنهكين المتخمين جوعاً وفقراً، والعطاشى لشعاع حرية يهديهم الى السبيل الذي يرجونه, قيل ليوسف عليه السلام: "مالك تجوع وأنت على خزائن الارض؟أجاب .. أخاف ان أشبع فأنسى الجائعين" .
نسي النسر أو تناسى أنه كان يسكن القاع ذات يوم وكان يصبّ غضبه على الطيور الجارحة، قبل ان ينبتَ له جناحان، ليحاول أن يغطي بهما شمس الحرية عن قاع المدينة فلم يستطعْ الى ذلك سبيلاً , نسي النسر أو تناسى أنه كان يجعجع في القاع ولكن تبين انها جعجعة بلا طحن , كان يشبه لوننا ويرتدي ثوبا يشبه ثوبنا ويتألم كألمنا لكنّه أصبح غريباً عنا بعيداً منبوذاً الى يوم يبعثون لأنه يتحدث بلغة لانفهمها ولم يعد يفهم لغتنا. أه ياوطني حتى لغتنا لم يعد يفهمها ذاك النسر, ماذا تتنظر منا اكثر من هذا العطاء؟ هانحن نغرق في مستنقعك المثقل بالوقود الكلامي والذي تفوح منه رائحة ضرائب أزكمتْ أنوفنا واسعار أثقلتنا وحريات اصبحت حرمة علينا كحرمة الأم على ابنها، وتناثرت أشلائنا ونحن نبحث عنها, غابت العدالة وتكسّر الإصلاح بالقوانين المؤقتة وغير المؤقتة والفساد استشرى من القاع الى القاع وغابت العدالة الاجتماعية.
أيها النسر، ماذا تنتظر، بل ماذا ننتظر؟! لم يعد أمامنا إلا أنْ نفتك ببعضنا في القاع ونصنع من عظامنا نصلاً، نهديك إيّاه مع أول بزوغ فجر ليسكن بين يديك، فنريحك وتريحنا لعلّها تمطر مطراً أحمر، بلون الحرقة التي بداخلنا بطعم الهزيمة والانكسار واليأس، بطعم الخوف والقلق الذي يسكن فينا؛ فالوطن ليس مجرد تراب وبشر, فلقد بلغ السيل الزبى، والفئران التي أسميتها، خرجت من جحورها وخرجت من جلودها لتقول كلمتها التي كمّمتها طوال تحليقك فوق رؤوسنا فقد قالها هاملت في رائعة الكاتب الانجليزي وليم شكسبير: "أكون او لا أكون تلك هي المسألة"، وقال الشاعر الفلسطيني الشهيد عبدالرحيم محمود: "سأحمل روحي على راحتي ..وألقي بها في مهاوي الرّدى....فإمّا حياة تسر الصديق ..وإمّا ممات يغيض العدى". دقت الساعة المتاخرة ستون دقيقة ( ساعتك الصيفية ) وهرب النوم من أعيننا وحان وقت الصحوة التي نفضت النوم عن عيون من يسكن قاع المدينة وارتفعت الغشاوة عن وعينا الفكري والروحي لنرفض ان نكون منذ اليوم هامشا لاحول له ولاقوة باسم اكذوبة امن وأمان لوطن لم نعد نشعر فيه بلحظة اطمئنان واحدة