لم تعد الدراسات الحديثة أو ما يسمى بالحفريات تٌُعنى بالعناوين الكبرى.. وبالموضوعات التي قتلت بحثاً، أنها تذهب الى أدق التفاصيل وتعيد الاعتبار الى ما كان مهملاً ومألوفا من ظواهر الحياة..
فمن خلال شكل المعمار يمكن التوصل الى المزاج النفسي للبشر في مدينة ما وكذلك من خلال الأثاث الشائع، وكما يرى أحد العلماء فإن شكل الموائد والمقاعد يفتضح الوضع السياسي في مجمع ما، فحين تكثر الموائد غير المستديرة تكون دلالة ذلك ان المجتمع باترياركي، وبه تمارس الابوية دور الوصاية على كل الافراد.
وقد لا تكون هذه الدراسات جديدة تماماً لأن لها جذوراً في الفلسفة وعلم النفس، وعلى سبيل المثال درس فيلسوف الماني هو ازوالد شينجلر الفكر الاسلامي وتطور الحضارة العربية من خلال الأقواس، وثمة من درس طبيعة المجتمع المصري القديم والتراتبية الاجتماعية فيه من خلال الهرم الذي تبدو قاعدته العريضة كلها وكذلك السّفوح في خدمة الرأس والقمة.
ومن زار الصين ورأى المدائن المحرّمة التي كان يقطن فيها الامبراطور قد تغنيه التفاصيل في المكان عن قراءة الفلسفة التي تحكمت بالمعمار والأثاث.
وفي ضوء هذا كله اقترح على الباحثين في علم النفس بأبعاده الاجتماعية والسياسية ان يختاروا عينات من اعلانات التلفزيون ومن مختلف الفضائيات، ثم وضعها تحت المجهر للتعرف على المستوى الذهني والنفسي الذي وصل اليه البشر في هذا العصر.
من هذه الاعلانات ما ينتهك الطفولة ويعيد المرأة الى عصر الحريم ومنها ما يسخر من الفكر وبالمجمل فهي تستأصل من الانسان جوهره وتحوله الى مجرد اسفنجة لا تصلح الا للاستهلاك.. هذا بالرغم من ان المعلن يعرف بأن المشاهد يضجر سريعاً من هذا السّيل الملون والصاخب من الاعلانات، وقد يبحث عن قناة أخرى بانتظار زوال النَّوْبة الاعلانية.
بالطبع يستفيد المتخصصون في صياغة الاعلانات من علم النفس وبالتحديد من نظرية بافلوف المعروفة، وهي ما يسمى التعلم الشرطي.. فالكلب يسيل لعابه اذا كان صوت الجرس الذي يسمعه مصحوباً بالطعام، لكنه بعد ذلك يواصل الاستجابة للرّنين باللعاب حتى لو لم يكن هناك أي طعام!
لقد تجاوزت تجارة الاعلان المتلفز كل الحدود، واصبحت تستخف بالعلم والادب وكل ما له صلة بآدمية الانسان.. فعلى سبيل المثال فقط يقول أحد الاعلانات ان جمهورية افلاطون خانقة ومملة لأنها كانت تخلو من نوع معين من اجهزة تكييف الهواء.
وفي اعلان آخر يطلق رجل زوجته لأنها لا تستخدم نوعاً محدداً من العطر الذي صمم الاعلان عنه.
ولو شئت الاستطراد لأوردت عشرات وربما مئات الامثلة من هذا الطراز.
ان الاعلانات الآن هي المدخل النموذجي للتعرف على ما بلغه الانسان في هذا العصر!
(الدستور)