تكمن أهمية خطاب العرش في الأنظمة الملكية بأنه يمثل الرؤية المتكاملة للملك رئيس السلطات الثلاث تجاه المرحلة القادمة من عمر الدولة وبذلك يشبه إلى حد بعيد خطاب حالة الاتحاد الذي يلقيه الرئيس الأميركي أمام أعضاء الكونجرس. القيمة السياسية لخطاب العرش تتركز في مضامينه والتوجهات التي يحملها والتي يجب أن تشكل مرجعية دستورية للسلطات الثلاث في عملها، ولكن تنفيذ خطاب العرش ليس مسؤولية الملك بل الحكومات ومجلس الأمة وكافة القوى والمؤسسات السياسية في الدولة.
مشكلتنا المزمنة في الأردن أن القيم الإيجابية التي يتضمنها دائما خطاب العرش لا يتم متابعة تنفيذها بالشكل الصحيح من قبل الحكومات. يمكن أن نكتب الكثير حول ردود فعل القوى السياسية على خطاب العرش ومضمونه الإصلاحي ولكن ذلك لن يقدم أو يؤخر شيئا في العملية السياسية وفي إدارة الدولة في حال لم تكن لدى الحكومات أدوات واضحة لتنفيذ هذه المضامين وبجدول زمني واضح أو لم تكن لدى مجلس الأمة بشقيه الإرادة السياسية السليمة للالتزام بهذه القيم.
جاء خطاب العرش لهذا العام هادئا وعكس نظرة ثقة من الملك تجاه الأحداث المحلية والإقليمية، وهي ثقة نابعة من حقيقة أن الأيام أثبتت صحة التوجهات الأردنية في العمل على تحقيق مسار إصلاحي من الداخل يستجيب للأولويات الوطنية ولا يهرول وراء الاندفاع الذي أحدثته حالة الربيع العربي والتي تركت ورائها الكثير من الدماء والدموع والدمار والوعود غير المنجزة في الدول العربية الأخرى. وضع الأردن في تشرين الثاني 2013 أفضل بكثير مما كان عليه في تشرين الثاني 2012 حيث كان الشارع يغلي على وقع رفع الأسعار وصخب الربيع العربي والتظاهرات اليومية، ولكن هذه الثقة تلعب دورا هاما في استقرار الوضع الداخلي للمضي قدما نحو الأمان المستدام والذي يتحقق عبر استكمال الأطر التشريعية والسياسية للإصلاح التي أكد عليها الملك.
رسالة الملك لمجلس النواب تضمنت توازنا ما بين طمأنينة بأن التوجه هو في استكمال مدة المجلس وهذا سيريح كل النواب وما بين التأكيد على أهمية المسؤولية في الحوار ومنع الممارسات الفردية التي تتعارض مع اساسيات العمل الديمقراطي. وفي ذاكرتنا السرعة الشديدة التي استجاب بها مجلس النواب لغضب الملك تجاه حادثة إطلاق النار في المجلس قبل اشهر، وهذا ما يؤكد على أن المجلس مطالب بالارتقاء إلى مستوى ثقة الملك وخاصة بعض النواب اصحاب الأعصاب المنفلتة والذي يسيئون لأنفسهم ولصورة البلد بشكل دائم.
لم يتضمن خطاب العرش توجهات استثنائية بل جاء متوازنا ومرسخا للمضامين السابقة ولكن مسؤولية التنفيذ والالتزام بهذه القيم تبقى كبيرة على الحكومات والنواب، ولا يحتاج الملك مديحا مطولا على مضمون خطاب العرش بقدر ما يحتاج هو وكافة الأردنيين إلى ارتقاء الحكومة والنواب إلى المستوى المطلوب من المسؤولية.
(الدستور)