زمان، عندما كانت تنهمر حبات المطر، كنا نتسابق إلى الساحة، نلتقطها بفرح غامر. وكان كل أطفال الحارة ينشدون نشيدا واحدا "شتي يا دنيا وزيدي... بيتنا حديدي".
وقت ذاك، كان الناس يفرحون بالمطر، ويستبشرون بموسم زراعي جيد. وكان الكبار كلما زاد طرق حبات المطر اللؤلؤية على الشباك أو سطح المنزل، يهللون، ويتضرعون إلى الله أن يزيد الهطول. وكان الهطول يتواصل أحيانا لأيام، من دون أن تظهر الشمس في كبد السماء، وإن ظهرت تكون خجلة، وكأنها مكسوفة، وتغيب في زحمة غيوم محملة ببركات السماء.
كان للشتاء بهجة ورونق. لم نكن نسمع بأذى للشوارع جراء الأمطار، ولا بفيضانات متواصلة. وإن حصل ذلك، فإنه يحصل نادرا. وكان الجو أكثر نقاء، وحبات المطر أكثر وداعة؛ تنزل وكأنها تداعب الناس لتفرحهم، بخلاف ما بتنا نراه في مواسم منصرمة؛ حبات قاسية بقسوة زماننا، تجرف شوارع وأتربة، وتُحدث أضرارا.
تغير علينا المطر. وحتى الثلج بات يزورنا على استحياء، وأحيانا كثيرة يغيب، وإن جاء يأتينا بعد عناء طويل، ربما لكي يفرح أطفالنا الذين أصبحوا ينتظرونه كل فصل شتاء.
كان لكل شتوة اسم وقصة، ولكل شهر حكاية شعبية حكتها الجدات للأحفاد. لكن، لم يعد باستطاعتنا أن نحكي ذات الحكايا لأولادنا، لأن الأشهر تغيرت ولم تعد كما كانت أيام زمان؛ فلم يعد آذار أبو سبع ثلجات كبار، ولم تعد أشهر الكوانين بذات الإرث الشعبي الذي قالته الجدة.
كان للمّة العائلة على "صوبة البواري" أو "الفوجيكا"، والتدثر بالحرامات من قساوة برد "المربعانية"، طعم مختلف؛ وكان للشاي من على صوبة "الفوجيكا" رائحة زكية، تُشعرك بالشتاء وبالمطر.
زمان، لم يكن الـ"واتس آب" والـ"آيباد" قد دخلا معترك حياتنا؛ كنا نخاطب بعضنا بلغة الكلام، وليس عبر الأصابع والرسائل، وكان كل فرد في العائلة يتحدث مع الآخر وجها لوجه، وليس عبر رسائل الـ"أس. إم. أس".
زمان أيضا، لم يكن أهلنا يذهبون إلى الفرن (المخبز) إلا لحاجات ضرورية. كانت الأمهات يعجنّ ويخبزن في البيت، فكانت حاجتنا للمخبز قليلة أو معدومة. وبعد حين، كان الناس يعجنون في البيت ويرسلون العجين للمخبز لإعادته خبزا شهيا.
كانت المخابز قليلة، ليس كما هي الآن، وفي كل حارة أو جبل يوجد واحد أو اثنان. وكان الذهاب للفرن من نصيب الأطفال الذين كانوا يستمتعون حينا بالمغامرة، وأحيانا أخرى يتهربون منها، إن كان في الحارة رفاق لهم اتفقوا على لعب كرة قدم، بـ"طابة شرايط" طبعا.
تغيرت الحال، وبتنا نعتمد على المخابز الآلية، ولا نعرف الطحين، ولا نُدخله بيوتنا. وأصبحت الحكومة تتحدث معنا عن خبز مدعوم وآخر غير مدعوم. وبات المواطن يصنف حكوميا "مواطن مدعوم" و"مواطن خال من الدعم الحكومي".
تغيرت الحياة، وبتنا أكثر اتكالية، وبات مجتمعنا أكثر استهلاكية، فلم تعد حبات المطر تفرحنا كثيرا. إذ إن نزول المطر من عدمه لن يغير في الوضع شيئا؛ فإن جاء المطر، الذي كان يطلق عليه آباؤنا "الخير" لآثاره الإيجابية الكبيرة على حياتهم، أو لم يأت، ستبقى أسعار الخضار مرتفعة، والفواكه تباع كأنها في الصيدلية!
تغيرت الحال وبتنا نستورد قمحنا بعد أن كانت سهول حوران خزانا غذائيا لا ينضب، ووادي الأردن سلتنا الغذائية التي نفاخر بها العالم. حتى رحلاتنا السياحية أصبحت إلى شرم الشيخ وطابا وتركيا، أكثر منها إلى البحر الميت والعقبة، ليس لأن مواطننا لا يريد الذهاب إلى العقبة والبحر الميت، وإنما لأن تلك المناطق باتت "أرخص" سياحيا من مناطقنا الداخلية.
ترى ما الذي تغير؟ هل نحن من تغير، أم أن الحياة باتت أكثر قسوة كحبات المطر، فتغيرنا؟! وبتنا نلهث وراء رغيف الخبز، لعل وعسى نستطيع أن نجده لنسد جوع أفواه تبحث عن الطعام.
ترى من فعل بنا هذا؟ ومن الذي يريد لنا أن ننتقل من حالة التفكير الجمعي إلى حالة التفكير الفردي؟ ومن يريد لنا مواصلة اللهاث وراء لقمة العيش، من دون أن نفكر بما يدور حولنا؟!
(الغد)