في حضرة الغائب الكبير الدكتور فخري صويلح
05-11-2013 01:02 PM
إن لله عباداً اختصهم لنفسه، نذروا أنفسهم خدمة لرسالة آمنوا بها، وأول العلامات فيهم، أنهم الأحرار هم، عاشوا فكان الذل تحت أقدامهم، عاشوا سادة بسمو طاول السحاب، فكانوا فوق شهوة النفس ومطامعها، وهكذا كان فخري صويلح ... فقد استقام على ذلك، فعاش ممسكاً بزمام الإرادة والقوة، زاهداً بما في أيدي الناس، منزهاً نفسه عن مطامع الدنيا وأغراضها.
هكذا عاش " محمد سعيد" محمد صويلح والمسمى فيما بعد فخري محمد صويلح لا يرى فضائله فضائل، وإنما يرى فيها أمانات لتبقى معانيها محفوظة في الدنيا، فهو من قوم زرعوا بيد الله زرعاً مباركاً يحمل معاني سامية تسعى بكل ما تملكه لاستئناف شريعة الله بوصفها الحاكمة لحياة البشر أفراداً وجماعات.
وما تحسب فخري صويلح المولود عام 1939 إلا واحداً من هولاء الناس، الذين جاءوا في عصر غابت عنه معاني البحث عن الحق، وفترت فيه النفوس فسقطت العزائم ووهنت الهمم، فهوت دولة الحق بعد أن كانت في أعالي القمم.
وإن كان فخري صويلح بالنسبة لي الوالد، والأب والصديق، فقد عرفته أول ما عرفته من غرس يده... فقد عاش، وعاش من حوله رجال وقافون على الحق، ثقات عدول، أفنوا حياتهم في سبيل الله ... وعرفته الطبيب والانسان ... رحيماً بمن حوله .. عطوفاً عليهم ... يرنو بيده إليهم يمد إليهم يداً بالشفاء... وأخرى بمكارم الأخلاق ... عاش من الأعوام ما يزيد عن السبعين ... رأيت فيه المبادرة ... وإنكار الذات .. والصمت مع العمل ... لم تحمله الأكتاف والأعناق إلا مرة واحدة يوم الوداع الأخير ... ورأيت فيه التسامح والعفو عن كل من أساء له.. ولئن كان ظاهره الحزم والشدة فحفظاً للأمانات ... ولكن قلبه لم يكن ينبض إلا حباً لمن حوله، فما رأيته إلا داعياً لهم بالتوفيق والخير والسداد .. رأيت ذلك في عمرته الأخيره، وهو يطوف البيت العتيق وبعد كل صلاة يدعو لمن أحبهم .. وما أكثرهم .. كل باسمه وحاجته .. فكلامه لمن أحبهم ودعاؤه أيضاً من القلب إلى القلب شأنه شأن المسلم إذا أخلص النية لله.
عشت معه قريب الأربعين عاماً ... رأيت فيه الغيرة على الدين والأمة .. رأيته يبكي يوم سقوط بغداد، ورأيته يبكي قبل ذلك حال فلسطين... ورأيت غضبته ساعة تنتهك حرمات الله... هكذا عاش ... وهكذا عرفه من عايشه ورافقه ... سمعت أحدهم يخاطبه بقوله .. أن أيا أبا محمد.. ما شهدتك قسوت علينا إلا لمصلحة عليا ... وهدف نبيل، ولم تكن غضبتك يوماً لنفسك .. بل كانت دوماً لله.
لم يكن لنفسه نصيب من وقته واهتمامه... بل كان جل اهتمامه مصروفاً لرسالته التي حملها أكثر من نصف قرن طبيباً للقلوب والأبدان والعقول ... عالج أسقام من حوله بفهم وتجرد .. وإخلاص .. وعاملهم بثقة وتضحية وأخوة .. وواجه الحياة وصعابها بثبات وجهاد وطاعة لله .. كل ذلك كان محمولاً بالتوكل على الله حق التوكل.
عشت معه لم أسمع تضجراً أو شكوى... بل عشت معه معاني الاحتساب على ما حل به من معاني الضيق والشدة والمرض... كل ذلك ولسانه ما زال يردد على الدوام .. عجباً لأمر المسلم .. كل أمره له خير .. إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له .. وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له.
في يوم الأثنين الخامس من تشرين الثاني عام 2012 فارقنا الجسد الضعيف .. ولكن الروح والإرادة والعزيمة بيننا باقية لا تزول.
ليست مصادفة أن يكون اسمه فخري .. فكل حياته فخر .. وإن كان يأبى الدعاية والأضواء فقد انشغل بالبناء .. وما كان لكل عبد اختصه الله برسالة أن يكون بناءً .. وما كل بناءً يوهب هذه العبقرية في البناء.
فقد ترك الفقيد بصمة وأثراً في نفوس محبيه ومعاصريه .. يذكره أهله وعشيرته وأخوانه .. ويعرفون أنه العامل الحازم الصامت ذي النظرة والاستشراف، ويعرفه الأيتام في مراكز الأيتام، ويعرفه التلاميذ والطلاب في المدارس الإسلامية، ويعرفه العمل العام إذا جد الجد.. يعرفه الجميع قامة باسقة... عرف بقلة الكلام وكثرة الفعال.. لم يكن الخطيب المفوه، ولكنه كان المدبر المستشرف.. له عبقرية في استنهاض الطاقات .. واضح الرؤية .. دقيق الهدف.. لا يكل عن الزمان والمكان في نشاطه وحركته.
استطاع بحكمة بالغة وأبوة صادقة أن يجمع أنماط النفوس... من العقليات والأعمار في بناء واحد بديع ... كما تتجمع النغمات في لحن جميل.. واستطاع دفعها في اتجاه واحد ، نحو هدف صادق نبيل.
مضى فخري صويلح إلى جوار ربه .. غاب البدن .. وفقدت الأب والصديق.. ولكن الروح باقية والعزيمة متقدة والبناء باق... والورثة مستمرون يحملون اللواء شعلة مضيئة لا تفتر ولا تنطفىء.
مضى الفقيد وما أكثر محبيه جاءوا فرادى وزرافات إلى الوداع ... وإلى مجلس العزاء جمعتهم محبة الرجل والوفاء له .. رأيت في مجلس العزاء كل الألوان والأعمار والأفكار والتوجهات والأصول والمنابت والأديان .. وسمعت آحادهم يقولون ... رحمك الله يا فخري... جمعتنا حياً وجمعتنا ميتاً.. فلك الرحمة ولك الغفران... وإنا على ما تركتنا عليه حتى يتجدد اللقاء بحضرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم بإذن الله باقون.
بقلم: الدكتور محمد فخري صويلح