منذ بدء التاريخ والانسان يراوح بين رفاه الوردة وضرورة الرغيف، لهذا شهد الماضي ثورات وانتفاضات منها ما كان في سبيل الحرية ومنها ما كان في سبيل الضرورة، والمسألة اخيرا ليست رهنا لنظرية او مفهوم، والفارق بين ثورة الياسمين او حتى البرتقال وبين ثورة الرغيف، ان هذا النمط الثاني من الثورات يأتي على الاخضر واليابس ولا تسلم منه متاحف او دور عبادة او مصارف او اية منشآت للدولة، والعينات التي شهدناها في آسيا وافريقيا بالتحديد تتطلب دراسات غير تلك التي توقفت عند حدود التوصيف.
ومن قالوا ان صاحب الحاجة أرعن، كانوا يقصدون بالرعونة شيئا آخر غير الذي تعنيه هذه الكلمة في حياتنا اليومية، والرعونة هنا في هذا السياق هي العمى، وفقدان البوصلة وبالتالي الهدف، لان الانتقام يتحول الى دافع بديل لكل دوافع التغيير والرهانات تصبح شمشونية، والحصيلة انتحار.
الثورة من اجل الحرية تشترط وعياً بالشقاء لان شقاء التاريخ كله لا يكفي لتحريك فرد واحد ان غاب هذا الشرط، وهذا ما تحدث عنه مبكرا جان جاك روسو حين قال ان البؤس لا يخلق الثورة ان لم يكن هناك وعي عميق بأسبابه.
لكن ما يجري الآن هو اكثر من اختلاط أوراق، انه اختلاط مفاهيم، حيث لم يعد هناك فاصل بين الدولة والنظام وبين الثورة والفوضى واخيرا بين مراحل الانتقال ومراحل الانتقام وتصفية الحسابات.
صحيح ان الانسان لا يعيش بالخبز وحده، وهذا شعار رفع خريف الحقبة الستالينية، احتجاجا على تقييد الحريات، لكن الانسان ايضا لا يعيش بالبسكويت او الياسمين وحده، فالجدلية خالدة بين رغبتين احدهما تتلخص في الاقبال على الحياة والاخرى بالادبار عن هذه الحياة اذا كانت لا تستحق أن تعاش، خصوصا اذا ديست الكرامة الآدمية، ولم يعد الرغيف رغيفاً فقط، بل تحول الى علف.
نعرف ان ما سمي قبل عقود بمجتمع الوفرة أو دولة الرفاه قد انتهى الى الفشل وربما كان هذا احد العوامل التي دفعت مفكرين أوروبيين وامريكيين للبحث عن طريق ثالث ما دامت الشيوعية بشموليتها، والرأسمالية بتوحشها قد انتهتا معاً الى تغريب الانسان وافتقاره وتحوله الى رهينة.
وفي الوطن العربي ثمة من ودعوا الطبقة الوسطى وهي الحاضنة التقليدية لكل حراك ولمنظومة القيم، لكن ما تبقى من هذه الطبقة انشق على ذاته وبدأ يأكل بعضه، مما اتاح لما يسمى التسلل الطبقي ان يمحو كل التضاريس الاجتماعية ويحول الحياة برمتها الى عشوائيات وهي قد تكون عشوائيات رخامية ومن ابراج شاهقة، لكن عشوائيتها في المفاهيم وانماط التفكير والسلوك، والغياب الشامل لأي حدّ ادنى من التجانس.
وحين أضاف الحراك المصري تحديداً الرغيف الى الحرية والعدالة، فلكي يقول ان ثورة الجياع ليست خارج المشهد.
ما نخشاه هو أن يكون الياسمين أو حتى الحرية السياسية مجرد أسماء مستعارة للرغيف!
(الدستور)