للجسم الطبي الأردني صورة مشرفة في الذاكرة الجمعية للأردنيين، فقد قدم هذا الجسم قادة سياسيين يشار إليهم بالبنان في الحياة السياسية الأردنية والعربية، مثلما أثرى أطباء أردنيون الحياة الفكرية والثقافية في بلدنا. كذلك شهد العمل الخيري والتطوعي قامات طبية عالية ساهمت في بناء القطاع التطوعي الأردني.
وفي ذاكرة الأردنيين صور كثيرة لأطباء أردنيين كانوا لا يكتفون بإعفاء مرضاهم من أجورهم، بل يذهبون إلى أكثر من ذلك، فيشترون لهم الدواء من جيوبهم، ان لم يكن هذا الدواء متوفرًا لدى الطبيب مما تمنحه له شركات الأدوية. كان ذلك يوم كان الطب رسالة.. وبمثل هؤلاء الأطباء الذين تنحني لهم الهامات، بنى الجسم الطبي الأردني سمعته العطرة، ووصل إلى مكانته المميزة بفعل جهد وعرق وإنجاز أجيال متلاحقة من الأردنيين، ومن ثم فإن الحفاظ على هذا الانجاز، صار مسؤولية وطنية، يجب ان يتصدى لها الجميع، وفي مقدمتهم الدولة ممثلة بوزارة الصحة والمجتمع الأهلي، وفي مقدمته نقابة الأطباء. باعتبارها الحامية لقيم مهنة الطب. فقد صار لزامًا على النقابة اتخاذ مواقف حاسمة بعيدًا عن الحسابات الانتخابية لحماية سمعة القطاع الطبي الأردني من جهة، ولحماية المواطن الأردني من جهة أخرى.
نقول هذا الكلام بعد ان كثرت الشكوى من تعاظم الممارسات الخاطئة التي يقوم بها بعض المحسوبين على الجسم الطبي، وهي الشكوى التي صارت حديث المجالس والمنتديات، وليس أبشعها الحديث عن الارتفاع الكبير في كلف العلاج، ابتداءً من أجور الكشف والمراجعة التي صارت نسبة عالية من الأطباء تتلاعب بها، ولا تتقيد بالتعرفة الرسمية لها، ولا لسائر الخدمات والفحوص الطبية مع ما يرافق هذا الارتفاع من تهرب ضريبي، لا بد من وقفة من خلال إلزام الأطباء والمراكز الطبية بموازنات معتمدة من محاسبين قانونيين، وبضرورة حصول المريض على إيصال بالمبلغ الذي دفعه لتلقي العلاج سواء من عيادة الطبيب، أو من المركز الطبي هذا من جهة، ولوقف إرهاق المواطن جراء ابتزاز بعض الأطباء له من جهة أخرى، خاصة عندما يضطر هذا المواطن إلى مراجعة طبيب مختص، حيث تبدأ سلسلة طويلة من معاناته التي تزيده مرضًا على مرض، وإعياء على إعياء. حيث تبدأ رحلة المعاناة من صعوبة تحديد موعد مع الطبيب المختص، حتى إذا تمكن المواطن المريض من الحصول على موعد، يفاجأ عند ذهابه إلى الموعد المحدد بأن عليه ان ينتظر ساعات إلى حين وصول الطبيب إلى عيادته بسبب انشغال هذا الطبيب بإجراء العمليات، أو لارتباطه بأكثر من مستشفى. وأنَّ عليه أنَّ ينتظر طابورًا طويلاً من المراجعين، مع أن الأصل وكما هو معمول به في كل بلاد الدنيا المتحضرة، ان يذهب المريض إلى موعده المحدد فيدخل على الفور إلى الطبيب الذي يفترض ان يكون قد نظم أوقاته ومواعيده بما لا يرهق المريض بطول الانتظار، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن من واجب الطبيب أن يعطي للمريض الوقت الكافي والعناية اللازمة، وهو ما لا يتم لأمرين أولهما: أن جلّ الأطباء المختصين يصلون إلى عياداتهم مرهقين بسبب عملهم في المستشفيات من جهة، وبسبب زحمة المراجعين في العيادة من جهة ثانية. ولهذا فقد صار من الضروري أن تتدخل الجهات المعنية لتحدد للطبيب المختص عدد المرضى الذين عليه فحصهم في اليوم الواحد، وقبل ذلك عدد المستشفيات التي عليه ان يرتبط بها. لأن الطبيب المرهق والذي لا يعطي الوقت والتركيز الكافيين للمريض قد يودي بحياة هذا المريض.. ولعل هذا الأمر من أسباب الأخطاء الطبية التي كثر الحديث عنها.
أمر آخر يشكو منه المرضى، خاصة العرب منهم، وهو تلك الدائرة المميتة التي يدخلهم بها بعض الأطباء، عندما يطلبون منهم سلسلة من الفحوص وصور الأشعة شريطة إجرائها في مختبرات وعيادات بعينها، مما يؤشر على أن هناك اتفاقيات بين مجموعات من الأطباء والمختبرات، والصيدليات، ومراكز التصوير ترهق كاهل المريض دون ضرورة، بهدف الحصول على أكبر مبلغ مالي منه.
وهذه الممارسة وإن كنا نربأ بالجسم الطبي كاملاً من ممارستها، لكن أحدًا لا يستطيع إنكار وجودها، مما يستدعي التدخل السريع والحاسم لإنهائها حفاظاً على سمعة الجسم الطبي الأردني، الذي هو تراكم من عمل الأجيال المتلاحقة وحماية لسمعة الأردن، بعد أن صار محجًا للعلاج من قبل مواطني العديد من الدول الذين صار بعضهم يشكو مما عاناه من معاملة بعض المنتسبين للجسم الطبي الأردني، وقبل هذا وذاك حماية لحق المواطن الأردني بالحصول على العناية الطبية، وسائر الخدمات الطبية التي صار الحصول عليها شبه مستحيل بالنسبة لشرائح واسعة من المواطنين بسبب الارتفاع غير المبرر لكلفتها، وبسبب عدم حصوله على العناية الكاملة من طبيبه المشغول بإنهاء الطابور الطويل من المرضى المنتظرين في عيادته.
خلاصة القول: إن تدخل جهات الاختصاص صار ضرورة لتذكير البعض أن الطب ليس تجارة، بل رسالة إنسانية سامية؛ وهنا نحب ان نلفت عناية نقابة الأطباء إلى الإعلانات التجارية التي صار يلجأ إليها بعض الأطباء بصور مختلفة، مما يرسخ في الأذهان الصورة التجارية للقطاع الطبي الأردني، الذي نحب أن تظل صورته مشرقة من خلال سرعة الحركة لإنهاء بعض الممارسات الشاذة قبل ان تستفحل، فإن مستعظم النار من مستصغر الشرر.
(الرأي)