بالرغم من أنّ حجمها كبير، ومتخمة بالتفاصيل والأحداث والتطورات، إلاّ أنني أنجزت قراءة الرواية الجديدة لـ"دان براون"، بعنوان "الجحيم"، في أقلّ من أسبوع؛ لما فيها من سردية ممتعة، وقدرة عجيبة مذهلة لدى الكاتب على ربط التاريخ بالرموز الدينية والأساطير والجغرافيا والثقافة والفن والسياسة والفلسفة، بحبكة متقنة من التسلسل المنطقي، من دون إطالة مملة أو اختصار مخلّ.
مثل روايتيه السابقتين، "شيفرة دافنشي" و"ملائكة وشياطين"، يقود دان براون القارئ معه في رحلةٍ معرفية عميقة، عبر شخصية روبرت لانغدون؛ الأستاذ في جامعة هارفارد، والمتخصص في الرموز والشيفرات والأديان والأساطير، فيما يعاني من فقدان الذاكرة القريبة، ويقع بين مجموعتين: الأولى، مرتبطة بمنظمة الصحة العالمية، التي كانت جندته لمواجهة المجموعة الأخرى المتطرفة فلسفياً وسياسياً، وتنتمي إلى حركة "ما وراء الإنسانية"، وتريد نشر فيروس قاتل يقضي على ملايين البشر، استناداً إلى إيمان عميق بنظرية مالتوس، والتي تؤكّد أنّ البشرية تقوم بغربلة نفسها، في كل فترة من التاريخ، لتتخلص من الأعداد الزائدة من البشر، وتبقي الحياة ممكنة على سطح الكرة الأرضية.
هذه المعادلة تغيرت، كما ترى المجموعة الأخيرة التي تضم أطباء ومبدعين وفنانين ورجال أعمال، وتأثرت سلباً بالتقدم الطبي الحاصل، وبدور منظمة الصحة العالمية، ما دفع بالمجموعة إلى تبني خيار راديكالي، لكنه من وجهة نظرها ضروري، بنشر الفيروس القاتل الذي قام بتطويره أحد أبرز الأطباء في مجال الفيروسات والأمراض المعدية!
بالتأكيد، لا يمكن تلخيص الرواية في أسطر قليلة، لأنّ قيمتها الأدبية والفنية والمعرفية ليست فقط في جوهر القصة، وتلك الإشكالية الفلسفية التي تطرحها بعمق، وبسجال ونقاش عمليين محكمين موثّقين، لكنّهما مبسطان؛ وإنّما تتبدى هذه القيمة في كل فقرة، حيث يجد القارئ متعة وجمالاً في التفاصيل الدقيقة، التي تضعه أمام نص "دانتي" في الكوميديا الإلهية عن الجحيم، وما يحتويه من رموز وإشارات، وما يشي به من فلسفة ويختزنه من تطوّر دانتي الروحي وحياته. وهو النص الذي استلهمته هذه المجموعة في تنفيذ مهمتها التي تعتقد هي أنّها إنسانية.
يطوف بنا براون في ثنايا الرواية في مدينة فلورنسا وتضاريسها المختلفة الخلابة، ويعرّفنا على كنائسها ومزاياها المعمارية وتاريخها والتحف الفريدة التي فيها، بصورة ذكية وعميقة ودقيقة.
ويدخلنا إلى دهاليزها. وينتقل بنا بعد ذلك إلى البندقية، ليقوم بالمهمة نفسها، ثم إلى "آيا صوفيا" في اسطنبول، وما تتوافر عليه من كنوز معمارية هائلة!
إذا كنتم تريدون الاستمتاع بوقتكم، والترويح عن أنفسكم، مع اكتساب قدر كبير من المعرفة في التاريخ والفن والأساطير، عبر حبكة درامية مسكونة بالفلسفة والأدب، بلغة مبسطة مشوقة، وسردية استثنائية، وأن تنعتقوا في أفق تفكيركم من جحيم الواقع الذي يحيط بنا في مصر وسورية، وتخرجوا من سجالات تدور في حلقة مفرغة في بلادنا، بلا أي نتائج أو تغييرات مقنعة، فإنني أنصحكم بقراءة هذه الرواية؛ فجحيم دان براون أفضل لكم بكثير!
(الغد)