قريبا وبعد أيام ستمر علينا ذكرى استشهاد وصفي التل...
أنا لم أتأخر يوما في الكتابة عن وصفي، والسبب يعود أن هناك أناسا حين يموتون يهبون الحياة لغيرهم...وهذا الرجل وظيفته لم ترتبط بكونه رئيس وزراء الأردن ولكنها ارتبطت بأنه منحنا الأمل في لحظة صعبه ومنح التراب الأردني بعضا من رائحة المسك.
في العام (1999) ذهبت لزيارة العم مريود التل، الشقيق الأصغر لوصفي...وكان مقررا أن نشرب قهوتنا ونغادر لكي نترك الراحل (ابو طارق) يأخذ قسطا من الراحة ولكنه داهمني وقتها...بشيء لم أتوقع أن أراه في حياتي...أحضر كيسا أبيض وأخرج منه بدلة كحلية اللون، كانت ممزقة من الجهة اليمنى وفي البطانة (دم كثيف) تخثر مع الزمن ولكنه كان يملأ كامل البطانة..وأخبرني أنها البذلة التي استشهد فيها وصفي.
وأن كل ما فيها كان يحمله الشهيد في اللحظات الأخيرة, ولم يأخذوا شيئا منها...قلبت ما في البذلة ووجدت مسدسه (سميث اند وسون)...يحوي أربع طلقات والخامسة كانت فارغة ويبدو أنها كانت للأمان، وعلبة السجائر كما هي، والولاعة (الكارتير) وثمة ورقه تحتوي على مياومات الرئيس ولم تكن قد صرفت بعد، ودفتر صغير يحتوي حسابات للمزارعين الذين يعملون في مزرعته،وبقايا دم ظللت أوراقا كتبت عليها مجموعه من الملاحظات عن اجتماع وزراء الدفاع العرب في القاهرة...وثقب صغير جهة القلب الحاني ثقب واحد فقط، اخترقت من خلاله الطلقة قلب وصفي...وبين التفاصيل الدقيقة في قماش البذلة اكتشفت بقايا شقوق في القماش، وتبين لي أن الذين حاولوا إسعافه في المستشفى قد خلعوا عنه الجاكيت بسرعة..ولكنه الموت كان أسرع.
غادر العم أبو طارق للحديث مع أحدهم عبر الهاتف وأنا بقيت في الغرفة وحدي أقلب الجاكيت، وثمة بقايا تبغ علقت في أسفل الجيب، لم يتغير شيء فيه سوى دمعة حرى سالت من عيني دون أن أدري وغافلتني وسقطت على الجاكيت.. وأنا استدركت مشهدا لم أكن أخطط له أبدا، ودون أن أدري مسحت عيني (بالكم) الأيمن حتى لا يشاهد العم مريود ضعف الأردني...في لحظة تذكر لوصفي، هو لم يكن ضعفا بقدر ما كان استجداء لتاريخ رحل.
مازال ملمس الدم النبيل والكبير والطاهر في يدي، وما زلت ألمح ثقب الرصاصة، وما زالت رائحته في القماش وفي بقايا التبغ وفي الأوراق، وما زال هو مستلقيا على طريق السلط شامخا يقرأ الناس عليه كل صباح سورة الضحى ويسلمون على زمان كان الفداء فيه ديدنا ودينا.
سيدي (أبا مصطفى ) حين يذكر اسمك أخبر الرفاق بأني كنت من المحظوظين الذين تشرفوا بلمس دمك، ودمك الطاهر منحني في لحظة من لحظات الحياة أجمل حروف وأبهى مضمون يكتب عن البلد وأهلها، وأخبر الرفاق بأني حملت مسدسك وفتحت الطاحونة.. ويا ليت أننا خيرنا وقتها بين قلبك وقلوبنا، ولو خيرنا لتقدم الناس جلهم من عمان والسلط وإربد والكرك كي يأخذوا الرصاص عنك.. وأخبر أيضا أصدقائي في المقهى حين نجلس ونشكو زمنا لم يكن زماننا، أنني قرأت ملاحظات بخط يدك...وقلبت ورقا كانت يدك العفيفة تقلبه...
في ذكراك يا سيد الحب والبارود والوطن...وددت أن اعتذر لك عن دمعة سالت من عيني دون أن أدري وبللت يد الجاكيت الذي استشهدت به، وودت أن أعتذر لك عن قيامي بمسح محجر العين بكم الجاكيت...هل تراني يا طيب ودون أن أدري قررت أن أوحد بين دمعي ودمك..؟ لا أعرف ولكنك وصفي..وصفي التل... وأنا طفل بكل ما يفعل لا يجرؤ أن يداني حجم خطوة من خطواتك.
أيها المستلقي على طريق السلط....أحبك وأؤمن أن الشتاء حين يأتي على الكمالية يحفظ لمقامك رصيدا وافرا من الماء، وتأتي عصافير الغابة كي تشرب من الماء الموجود في حواف قبرك وتلقي عليك السلام وتنشد لك...أنا أخبرت العصافير أخبرت عصفورا للتو تعلم الزقزقة....أن ينقل لك سلامي وحبي ودمعي وأن يخبرك بأننا نحبك ولن ننساك وأننا سنقاتل لأجل بلادنا وعروبتنا وفلسطين مثلما فعلت...
يا وصفي كل عام أزور قبرك منذ أن شببت على الدنيا وأنا أزورك وهذا العام اسمح لي أن أسكب أيضا على حواف القبر بعضا من الدمع...لم يبق لي يا صديقي سوى الدمع.
(الرأي)