عندما بدأت قناة "العربية" بعرض مقتطفات من مقابلة الملكة رانيا العبدالله، قدّرتُ أنّ الوقت ليس مناسباً بعد لهكذا مقابلات، وظننتُ أن من الأفضل التريث قليلاً قبل هذه الخطوة.
إذ ليس هينا أن تقرر سيدة أولى الخروج على الرأي العام بمقابلة مطولة ومفصلة، بعد كل الأحداث الجسيمة التي شهدها الوطن العربي، والهزات المؤثرة التي عصفت بمجتمعاته.
لكن الملكة رانيا قررتْ، وبشجاعة الواعي ببيئته ومتغيراتها المتواصلة، التحدثَ للأردنيين والعالم أجمع، متجاوزة الحاجز النفسي الذي خلقه الربيع العربي لدى القادة قبل السيدات الأُوَل، ودفعهم للانطواء بعيداً عن الشاشات وعيون المشاهدين.
الرسالة الأهم التي بعث بها حضور الملكة بعد غياب طويل عن مثل هذه المقابلات، خلاصتها أن الأردن حالة متميزة، وأنه ماضٍ نحو المستقبل بثقة رغم ضعف الإمكانات. فهو تجاوز "الربيع" بنتيجة مختلفة عن دول أخرى سالت فيها الدماء، واستبيحت فيها الإنسانية وحقوقها.
على مدى حلقتين مطولتين تابعهما الكثيرون، تمكنت الملكة من أن توصل للمواطن الأردني والعربي، وحتى لسواهما، كيف تشعر سيدة أولى بعد التحولات الكبيرة التي شهدتها المنطقة؛ ما هي التأثيرات التي تركتها تلك التحولات على شخصيتها ونفسيتها، وكيف عبرتها، كما الأردن، بسلام.
الملكة أعادت تقديم نفسها سيدة قوية واثقة ومسؤولة، من خلال كلمات واضحة، تعبّر عن رؤيتها وأحلامها وآمالها باعتبارها ملكة، كما باعتبارها سيدة لديها مخاوفها وتحديات تواجهها في مجتمعاتنا الشرقية.
الصراحة التي تحدثت بها الملكة مريحة. وبظني أنها أجابت عن كثير من التساؤلات التي تدور في نفوس الأردنيين أولا، والعرب ثانيا، والعالم ثالثا.
وكان الكلام الصريح، كما التلميح وحتى العتب أحيانا، أسلوبا لإيصال الرسالة، والتعبير عن شعورها كإنسانة قبل أن تكون ملكة. ورغم تأكيدها أكثر من مرة على أن السياسة ليست مجالها، إلا أن الملكة لا تخفي إيمانها بأن الإصلاح والديمقراطية هما الطريق نحو المستقبل. وضمن ذلك يتكشف إيمانها المطلق، وعن حق، بأن الاستثمار في التعليم هو الضمانة للتطور وتغيير حياة المجتمعات نحو الأفضل.
لم تخف الملكة، في حلقتي المقابلة، انحيازها للتعليم كاستثمار في الأجيال المقبلة لا بديل عنه، وإصرارها بالتالي، ورغم كل المعيقات، على إصلاح هذا القطاع.
التعليم بدا وكأنه قضية شخصية للملكة؛ تجهد كثيرا من أجل تخليصه من ما علق به من شوائب وما أصابه من عيوب، لإدراكها أن التعليم المتطور البعيد عن التلقين، هو أداة الجميع في الحصول على فرص متساوية في الحياة.
هموم الشباب كانت حاضرة في ذهن الملكة، مشخصة الحالة بدقة، بقولها إن الشباب يعيش بين عالمين؛ الأول افتراضي جميل، بلا قيود على الحريات، والطموح فيه بلا حدود؛ فيما العالم الآخر هو واقع هؤلاء الشباب الحقيقي الصعب، حيث يعانون القمع، وعدم احترام الرأي، وقلة الفرص. وبين هذين العالمين، يتوه الشباب بحثا عن عالم أفضل، يجسّر الهوة بين الافتراضي والحقيقي.
للعدالة والحرية والديمقراطية واحترام الآخر والتعايش ورفض العنف، حضور خاص في ذهن الملكة. وهي مبادئ خرجت الشعوب للمطالبة بها، ولتغدو بالتالي نقاط التقاء من المهم التركيز عليها.
ردود الفعل على مقابلة الملكة رانيا العبدالله متباينة؛ فحتماً هناك المعجب كما هناك المنتقد. لكن، وكما قالت الملكة، لا أحد معصوم. ولا بأس من النقد المبني على الحقائق والمعرفة، إنما ليس التجريح اعتمادا على شائعات ومعالجات لا أساس لها من الصحة.
أحيانا، يلزم المرء أن يكسر الجليد، أو حتى الجدران الافتراضية، ليكتشف ما تخفي خلفها، ولتكون بداية جديدة من الأمل، على نحو ما فعل حديث الملكة في مقابلتها الأخيرة.
(الغد)