تحمل كلمة «فساد» العديد من المعاني في اللغة، ولكنها عموما تعطي مدلولا واحد وهو « سوء الأمانة والاختلاس» أو سرقة مال المخدوم أو «تلقي مبلغ من المال» نظير خدمة أو منفعة غير مشروعة، ولعل أخطرها على الإطلاق هو إساءة استخدام السلطة لتنفيذ مآرب شخصية أو عائلية على حساب الآخرين، وإقصاء الكفاءات المؤهلة، وبالمجمل فان كل هذه المعاني تشير إلى البعد عن العدالة والفضيلة والقيم السامية الدينية والاجتماعية والثقافية.
وتتعدد أنواع الفساد فهي تدخل في مناحي الحياة كلها، ولكن الفساد الاقتصادي هو المدخل للفساد السياسي، والاجتماعي، والإداري، في أي دولة أو مجتمع وهو آفة الآفات بالمطلق.
ولا نكتشف «الذرة» حين نقول بان العالم الثالث، والدول التي لا تحمل تراثا ديمقراطيا متجذرا،يؤسس لمفهوم المسألة والمحاسبة، ومنها بطبيعة الحال عالمنا العربي موبوءً بالفساد، وانعدام معايير الشفافية، وبمعدلات عالية تتفاوت من بلد لأخر، وعموما لا يكاد يخلو قطر عربي من وجود اثر على تفشيهما فيه سواء الدول التي تملك ثروة ومعدلات دخل مرتفعه، أو تلك التي تعاني عكس ذلك، حتى أنه بالإضافة إلى اللغة والدين والجغرافيا والتاريخ المشترك أصبح الفساد من العوامل التي تؤسس موضوعيا للوحدة العربية!!، حيث تتفشى الواسطة والفساد في كل مفاصل الإدارة العامة وأيضا في القطاع الخاص حيث سيادة مفهوم ثروة العائلة وتكدسها وحرية التصرف فيها دون حسيب أو رقيب.
ولا بأس من الإشارة أيضا، إلى أن العالم الإسلامي وحسب مؤشرات منظمة الشفافية العالمية
Transparency International» « يحتل موقعا متقدما في معدلات الفساد ألمرتفعه، بالرغم من أن الأديان والشرائع السماوية ومنها «الإسلام» تعتبر الفساد «من الكبائر العظيمة.
وللأسف فقد تم توظيف واستغلال بعض الأمثال والمأثورات الشعبية في ثقافتنا المجتمعية على غير مقصدها الحقيقي، واعتبرت نوعا من الاستغلال الذكي للفرص ومنها «إِذا هَبَّتْ رِياحُكَ فَاغْتَنِمْها, فَعُقْبَى كُلِّ خافِقَة ٍ سُكُوْنُ»، و» إذا درت نيـــاقك فأحتلبها ، فما تدري الفصيل لمن يكون»،ناهيك عن أن مقاييس الإشادة بالمسؤول أو النائب أو السياسي مرتبطة بمقدار تقديمهم لخدمة ما أو منفعة بغير طرقها العادلة، وفي مجتمع كمجتمعنا يمتاز بالترابط العائلي والاجتماعي، تضطر دائما لسماع حكايات عن هذا القريب الذي تجاوز القانون وقدم منفعة لأقاربه فهو أصيل وشهم وابن بار لأهله، وبالمقابل تسمع النقد والهجوم والشعور بالخذلان من هذا القريب أو الصديق لتنكره وعدم استجابته لطلبات غالبا ما يكون فيها مخالفة أو فيها شبهة فساد جليه.
الخلاصة مما أردت الذهاب إليه أن الفساد وانعدام الشفافية في كل مناحي الحياة ليس مسؤولية حكومية فقط، وان كانت مسؤوليات الحكومات مضاعفه كونها تملك سلطة العقاب والمكافأة، بل أن المجتمعات والثقافة السائدة فيها تتحمل جزءً مهما في مكافحة هذه الظاهرة المقلقة، ويقع على عاتق القوى الفاعلة من أحزاب ورجال دين وتكوينات اجتماعية مختلفة، دور وواجب والتزام في تعزيز مفاهيم العدالة والمساومة وتكافؤ الفرص بين أفراد المجتمع.
محلياً، وفي هذا السياق، يمكن النظر لجهود الأردن التي تبلورت مؤخرا وبرغبة ملكية سامية، من خلال اللجنة الملكية للنزاهة والتي عهد إليها ، العمل على تعزيز منظومة النزاهة، ومراجعة التشريعات ودراسة واقع الجهات الرقابية، وضمت مجموعة مهمة من الخبرات الوطنية المشهود لها في الإدارة والاقتصاد والقانون والأعلام، بالإشادة والتقدير والأمل، بان تكون المخرجات التي توصلت إليها والتي ستضمنها «ميثاق النزاهة» المنتظر، والذي سيعلن عنه في مؤتمر وطني كبير سيعقد قريبا، قد عالجت كل مناحي الخلل التي سادت في فترة زمنية سابقة، والتأسيس لثقافة مجتمعية تعلي من قيمة النزاهة والشفافية والعدالة لدى الناس في كل مواقعهم، وان تتوافر الإرادة والقناعة الحقيقة لدى القائمين على الإدارة التنفيذية بأنه لم يعد مقبولا أن تبقى ذات الأدوات وذات العقليات هي المتحكمة في مفاصل الإدارة دون مرجعية «محكمة»، وملزمة، تعلي من قيمة الكفاءة والجدارة والعدالة وتنبذ ما عدا ذلك.
(الرأي)