كنت وما زلت أبغض الرقابة المتسلطة القمعية وأحاربها، فمشاكل الحرية والديمقراطية لا تعالج إلا بمزيد من هاتين، لكن الرقابة بمفهومها الأوسع تشمل رقابة المجتمع ومؤسساته وحراس الأخلاق والقيم، وأصحاب الرؤى الأخلاقية التي تتسع في مفهومها فتستوعب أمراض وعيوب الخلق، فتنشد التغيير بالتي هي أحسن، وتراعي الطبيعة البشرية فلا تضادها أو تجدف عكس فطرتها!
رغم أنني لا أحب المقدمات فيما أكتب، إلا أنني اضطررت لهذا التقديم كي لا أفهم خطأ، وكي نفرق بين الرقابة المتسلطة القمعية وبين الرقابة الأخلاقية بمفهومها الرسالي الإصلاحي.
امتلأ أثيرنا في السنوات الأخيرة ببث الإذاعات الخاصة، وغدا لها حضور في حياتنا اليومية على نحو لافت، وهو أمر حسن ويفتح باب المنافسة، ويثري المشهد الإعلامي، وينقلنا مراحل كبيرة بعيدا عن الاحتكار الرسمي للعمليات الإعلامية، وهو أمر يسجل لبلدنا الذي سبق معظم البلاد العربية في هذا المضمار، انفتاح السوق الإذاعي أدخل إليه تجارب متنوعة وثقافات متعددة، ودخل فيما دخل مذيعون يقدمون برامج تقترب في كنهها من ممارسة الرذيلة والفحش، فهم يعمدون في بعض البرامج إلى القيام بدور الوسيط بين الشباب والفتيات كي يتعارفوا ويقيموا علاقات "حب" وتفاهمات، الله يعلم إلى أين تقضي، في ظل "احتباس" مشاريع الزواج وتعسر تكوين الأسر، بسبب ضيق الأحوال الاقتصاية، ما يعني أن مثل تلك البرامج "الشبابية" تيسر سبل إقامة علاقات غير شرعية، بين ذكور وإناث، قد يكونوا غير متساوين في العمر، بمعنى أكثر افتضاحا، بعض البرامج الإذاعية تمارس نوعا من "الدعارة" المقنعة، وبتحديد أكثر، هناك برامج تستقبل مشكلات المراهقين والمراهقات وتعطيهم نصائح سيئة عبر الأثير، خلافا لكل القيم النظيفة في المجتمع، وهناك برنامج معين على إذاعة خاصة ييسر سبل "التعارف" عبر استقبال ارقام خلويات ثم يجمع عشوائيا بين بنت وشاب ليتكلموا على الهواء لمدة دقيقة ثم يعطيهم أرقام بعضهم تحت الهوا ثم يتمنى لهم التوفيق بقصة حب(!) ولا يبالي مقدم البرنامج بأن يجمع بين بنات مدارس تحت 18 عاما مع شباب كبار فوق سن 25عاما، وهذا الأمر في جميع قوانين الدنيا ممنوع، حيث تمنع جميع الدول "توريط" من هم دون الثامنة عشرة في أي نوع من العلاقات!
الرقابة التي ندعو إليها هنا، ليست رقابة هيئة الإعلام المرئي والمسموع فقط، بل رقابة المجتمع والمستمعين، الذين يجب أن يقوموا بواجبهم فيقوموا أي اعوجاج أو خبث أو تلوث أخلاقي فيما يبث على أثيرنا، ويتدخلوا لعزل أي ظاهرة شاذة تلحق أذى بأخلاقنا وقيمنا!
مقابل هذا الخبث والفسق ثمة برامج وإذاعات تقوم رسالتها على الحض على الفضائل ومقاومة الرذائل، ندعو لتشجيعها والإكثار منها عبر الكتابة والإتصالات والمشاركة التقاعلية معها، لأننا بهذا نعزل الشرور ونكثر من الخيرات، وهذه مسؤولية جماعية لا تعفي أحدا من المشاركة!
helmi@nabaa.net