من خبرتنا في الإدارة الأردنية، فإن بعض الأمور لا تستحق كثيرا من التحليل حول معانيها ودلالاتها، ولا الكثير من التخمينات حول مقاصد دوائر القرار من ورائها. وكم مرة غرق المراقبون والكُتّاب في تحليل مغزى هذا التعيين أو ذاك التغيير، بينما أساس القرار في الواقع أبسط كثيرا وأقل شأنا مما خاضت به التحليلات.
خذ مثلا دلالة أن يتم وضع ثلاثة أعيان من عشيرة واحدة من كبريات القبائل الأردنية المكونة من عدة عشائر. كما صدف في برلمان سابق أن تم تعيين اثنين من عائلة واحدة في الشمال، لكن الاسم المعروف لأحدهما لا ينتهي بنفس الاسم المعروف للعائلة، وحتما لم يكن المقصود تمثيل تلك العائلة باثنين، بل يمكن ببساطة أن التنسيب باسم كل منهما جاء من جهتين مختلفتين، وعند غربلة الأسماء لم يتم الانتباه إلى أنهما من نفس العائلة.
ولو انتبه أحد الموجودين ونبه للأمر، لتم استثناء أحدهما. وأنا أكاد أجزم أن ما حدث بالنسبة للأعيان الثلاثة هو من هذا النوع، وليس رسالة مقصودة لأمور بعيدة أو قريبة.
على كل حال، التشكيلة الحالية لمجلس الأعيان أثارت ردود فعل قوية من عدة جهات، ولأسباب مختلفة تخص زاوية الرؤية عند كل طرف. فهناك احتجاجات مناطقية وجهوية وعشائرية على استثنائهم من التشكيل، وهناك أيضا احتجاجات مكتومة في المجالس على اختيار هذا أو ذاك وهو ليس الأجدر بهذا التمثيل، وكذلك تكرار أسماء بعينها.
أما من الزاوية السياسية، فإن الإصلاحيين والتقدميين يرون أن التشكيلة غلب عليها الطابع المحافظ، ولا تنسجم مع التوجهات الإصلاحية؛ بل تمثل ردة على الإصلاح.
وقد يكون تعيين عبدالرؤوف الروابدة بديلا لطاهر المصري هو العنوان لهذا التوجه المحافظ. ومع أن المجلس ضم على الأقل عدة شخصيات ذات خلفية يسارية وقومية، إلا أنه لم يغط التلاوين السياسية جيدا، خصوصا لجهة خلوه من الإسلاميين.
تركزت التحليلات على الاستبعاد المفاجئ للرئيس السابق طاهر المصري. وأعتقد أن تجربة الأعيان مع النواب خلال السنة الماضية لعبت دورا في هذا الخيار. فقد وقف المصري موقفا مرنا تجاه خيارات النواب. وفي جلستين، فاز قرار النواب في الجلسات المشتركة.
وطبعا إلى جانب القيادة الديمقراطية للمصري، فإن موازين القوى لعبت دورا؛ إذ أصبح عدد النواب مائة وخمسين، فيما نقص عدد الأعيان إلى ما دون الستين، وتوجد على الطريق مشاريع قوانين كثيرة خلافية، لا يراد للأعيان فيها أن يفقدوا قدرتهم الكابحة لتوجهات النواب، فتم ملء المقاعد الخمسة والسبعين بأغلبية محافظة، إلى جانب وضع رئيس قادر على قيادة الدفة بالطريقة المرغوبة.
هل نتجه إلى ردة عامة عن الإصلاح؟ لا أدري، فقد بات صعبا فهم حقيقة التوجهات أو التنبؤ بها سندا لبعض الظواهر أو الخطوات، وتحديدا التعيينات في المناصب المختلفة التي تخضع لاعتبارات ظرفية معينة، قد لا ترتبط باستراتيجية معينة.
فنيا، يُستحسن وضع معايير دقيقة وشفافة لعضوية مجلس الأعيان، الذي يثير في كل مرة احتجاجات شتى. وقد شهدنا ما هو أسوأ كثيرا في فترات سابقة، إذ تم ضرب المعايير عرض الحائط بصورة فاقعة، تجعل التركيبة الحالية أكثر معقولية رغم الطابع السياسي المحافظ. وفي الحقيقة، فإن الرؤية للإصلاح تشمل تغيير هيكلة السلطة التشريعية كلها، ودور مجلس الأعيان، لكن تم تفويت الفرصة التي أتيحت في التعديلات الدستورية، ولا ندري متى ستعود.
(الغد)