يعكس موقف السعودية الرافض قبول عضوية مجلس الأمن الدولي، ما وصل إليه حجم "الغضب المكتوم" بين الدول العربية الصديقة والحليفة للولايات المتحدة -أو ما يسمى سابقاً بـ"معسكر الاعتدال العربي"- من الإدارة الأميركية!
الأزمة بدأت جذورها مع أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001، عندما بدأت أصوات أميركية وغربية تدعو إلى إعادة النظر في "الصفقة التاريخية" بين الأنظمة العربية-الأوتوقراطية وبين الإدارات الأميركية، بتحميل تلك العلاقة المسؤولية الحقيقية عن صعود "القاعدة" والقوى الراديكالية، وتوجهها بالعداء نحو الولايات المتحدة.
وهي دعوات أنجبت استراتيجية بوش الابن المعروفة بـ"الشرق الأوسط الجديد"، وتتلخص فلسفتها بمقولة إنّ الأنظمة العربية القائمة لم تعد قابلة للاستمرار، وهي لا تُنتج ولا تُصدّر إلا المشاكل، فلا بد من تغيير السياسات من الاحتواء والاستقرار إلى "إدارة التغيير"، أو ما سمّاه بعض المنظّرين الأميركيين "الفوضى الخلّاقة".
وبالرغم من فشل مشروع المحافظين الجدد وإجهاضه في مهده، أي العراق؛ الدولة التي كان من المفترض أن تحمل "مفتاح التغيير"، واصطدام ذاك المشروع بمشروعين جديدين في المنطقة؛ الإيراني والإسلامي الراديكالي-القاعدة، إلاّ أنّ المفارقة تتمثل في أن إدارة الرئيس باراك أوباما، والتي جاءت في سياق العودة إلى المدرسة الواقعية في السياسة الخارجية، قد واجهت ما كان يتنبأ به المحافظون الجدد سابقاً، أي انهيار النظام الرسمي العربي، في العام 2011، مع الانتفاضات والثورات الشعبية.
تفاجأت الإدارة الأميركية بالانتفاضتين التونسية والمصرية، مثلها مثل الدول العربية. وفي لحظةٍ معينة، تخللها الاستماع إلى المنظّرين الذين أكدوا عدم جدوى الحفاظ على الحكومات الحالية، قررت الإدارة الأميركية العودة إلى استراتيجية "إدارة التغيير"، وضحّت بكل من زين العابدين بن علي وحسني مبارك، وفتحت صفحة جديدة مع القوى الإسلامية الصاعدة.
هذا التحول في السياسة الأميركية أزعج بشدّة الدول العربية الصديقة، وزاد من حجم الفجوة العميقة بين الطرفين. وكان شعور بعض الحكومات أنّ الإدارة الأميركية تخون أصدقاءها وتضحّي بهم.
وبالرغم من تعاون الأميركيين والأنظمة العربية الحليفة في الملفين الليبي والسوري، إلاّ أنّ موقف أميركا في سورية وجّه ضربة جديدة لهذه الدول بعد أن تراجعت الإدارة الأميركية عن الضربة العسكرية، بل وبدأت تتحدث عن فرص عقد "صفقة تاريخية" مع إيران، العدو اللدود للنظام الرسمي العربي!
بعد أن انتُخب محمد مرسي، عضو جماعة الإخوان المسلمين، رئيساً لمصر، شعرت الأنظمة العربية التقليدية بأنّها فقدت مركزاً مهماً من مراكزها، فبدأت عمليات إعادة إحياء "معسكر الاعتدال"، لكن هذه المرّة بمهمة ثلاثية الأبعاد، بعد أن كان المعسكر مخصصا منذ تشكيله في العام 2006 لمواجهة "معسكر الممانعة". فاليوم، يجد معسكر الاعتدال نفسه في مواجهة ثلاثة تحديات: الأول، المشروع الإيراني ونفوذه المتزايد، وتحالفه مع روسيا ودعمه للنظام السوري؛ والثاني، هو المشروع الإسلامي التركي الذي يراهن على ما يسمى بـ"الربيع العربي" وإدماج الإسلام المعتدل في النظام الإقليمي، بوصفه القوى الصاعدة؛ والثالث، هو الإسلامي الراديكالي-القاعدة، وما يمثله من خيار عنيف ثوري أصولي ضد الأوضاع القائمة ومصالح الغرب والعالم العربي على السواء!
نجحت عملية إحياء معسكر الاعتدال العربي، مؤقتاً، بانتزاع مصر من أيدي الإخوان، وذلك بالتحالف مع المؤسسة العسكرية، وتحييد الأميركيين في الصراع. وكذلك دعم حركة مماثلة لإفشال الحكومة التونسية الإسلامية. كما يتم العمل اليوم على محاصرة حماس-غزة، مرة أخرى، وإسقاطها هناك!
المفارقة أنّ هذه المشروعات الإقليمية؛ التركي والإيراني والعربي الرسمي، و"القاعدة"، جميعها تتصارع في سورية، وتخوض حرباً شرسة. وجميعها، كما نعرف، ضمن السياق الحضاري، إسلامية أو مسلمة في الحد الأدنى للتوصيف. لكنها اختارت مبدأ "صدام المصالح" بدلاً من التقائها، بينما المشروع الإسرائيلي يراقب بسعادة غامرة هذه الحرب الداخلية، وما تقدمه له من خدمات مجّانية تاريخية!
(الغد)