محمود فريحات .. بطل من معارك باب الواد واللطرون
27-10-2013 12:47 PM
* جف الصهيل في رئة الخيول وخمد صليل السيوف وبردت فوهات البنادق..
* بذل الغالي والنفيس دفاعا عن ثروى الاردن وأسوار القدس في أشهر حروب الجيش العربي
* مات وهو يردد قول الشاعر عرار: "يا أهل الوطن، حبوا الوطن، حب الوطن سنة"
* مات وهو صامد قوي الشكيمة مثل شجرة بلوط عتيقة في جبال عجلون
عمون - كتب : محمد خير فريحات - وأخيرا، ترجل الفارس، رغما عنه، مات وهو يردد قول شاعر الاردن عرار: "يا أهل الوطن حبوا الوطن، حب الوطن سنة".
كان يعشق الجندية ويحب العسكرية ويقدس تراب الوطن، لذلك لم يرغب يوما في أن يترجل عن صهوة جواده حتى لا يجف الصهيل في رئة الخيول، وحتى لا يخمد صليل السيوف في أرض المعارك، ولا تبرد فوهات البنادق.
الرقيب محمود داود فريحات، جندي مغوار من أبطال القوات المسلحة الأردنية القلائل الذين خاضوا غمار المعارك في باب الواد واللطرون دفاعا عن أسوار القدس عام 48 وظلوا على قيد الحياة حتى أيامنا هذه.
عاش الرقيب محمود فريحات قرابة 85 عاما (1928 – 2013)، قضاها جندياً مقاتلاً وعسكريا شجاعاً، جسد معنى الرجولة وشرف العمل في ميادين المعارك وساحات الوغى.
كان فارسا من بداوة الاردن الطيبة، رجلا في عشيرة وعشيرة في رجل،.. كان يجسد بساطة وشهامة الفلاحين الذين يبذلون الغالي والنفيس دفاعا عن أرضهم،.. ذاد عن تراب فلسطين ووقف في باب الواد واللطرون يحمي القدس.
عزيمة لا تلين
الرقيب محمود فريحات رحمه الله، صاحب القلب الكبير، ظل مخلصا للوطن بلا منة ووفيا بلا حدود، كانت عزيمته لا تلين، ولم يحد قلبه عن بوصلة الاردن الذي ظل هاجسه الأول والأخير دوما في حله وترحاله، إنه من الرجال الأحرار الذين ينثرون أرواحهم دحنونا مرتويا فداء للأرض والكرامة، ولأنه كذلك، لم يكن يخشى الموت، فلم يعرف الخوف من الموت طريقا الى قلبه وحياته، فكان جنديا شجاعا ومقاتلا صلدا في معركتي باب الواد واللطرون الى جانب زملائه من أبطال القوات المسلحة الأردنية.
ففي معركة اللطرون التي قاد خلالها المشير حابس المجالي القوات الأردنية المكونة من 1200 جنديا في مواجهة شرسة مع أكثر من 6500 جنديا من الجيش الإسرائيلي، تمكنت القوات المسلحة الأردنية من التفوق وتحقيق نصر عز نظيره في تلك الحروب، ونادى المشير حسين المجالي نشامى الجيش العربي بعبارته الشهيرة "الموت ولا الدنية"، فدب صدى هذه العباره عميقا في قلب الرقيب محمود فريحات ورفاقه في السلاح والقتال، فهجموا هجوم الأسود على القوات الإسرائيلية والحقوا بها هزيمة نكراء.
معركة باب الواد
وقدرت بعض الجهات اليهودية خسائرها بألفي قتيل، وتم أسر عدد كبير من الإسرائيليين من بينهم رئيس وزراء إسرائيل السابق "أرئيل شارون" حينما كان جنديا آنذاك، حيث تم نقله إلى معسكر الأسرى في مدينة المفرق، وقد كانت هذه المعركة خطوة كبيرة على طريق تحرير القدس، ما كان له مساهمة جليلة في رفع معنويات الجيوش العربية التي عانت من إخفاقات متلاحقة.
ويروي الرقيب محمود فريحات بعض ما دار في غمار هذه المعركة بقوله: كنا نلاحق جنود الجيش الإسرائيلي وهم يهربون ويختبئون في ملاجئهم من الخوف، فنباغتهم ونقضي عليهم واحدا تلو الآخر.
أما معركة باب الواد، فقد شكلت درسا بالغ القسوة لقنه أسود الجيش العربي الأردني لليهود بقيادة المشير حابس المجالي.
وقعت هذه المعركة بعد مرور أقل من أسبوع على معركة اللطرون، وتجلت فيها أروع صور البسالة والفداء، حيث إنقض فيها نشامى الجيش العربي على خطوط اليهود مقدمين أرواحهم فداء للقدس وأرض فلسطين المباركة، ففتكوا بقواتهم والحقوا بهم شر هزيمة.
وتمكنت قوات الجيش العربي من قتل المئات من جنود الجيش الإسرائيلي، وجرح أكثر من ألف جندي وأسر العشرات منهم، بينما أستشهد قرابة 20 جنديا من الجيش العربي الأردني الذي تمكن في هذه المعركة الفاصلة والملحمة التاريخية من تحرير مدينة القدس من أيدي القوات الإسرائيلية.
مستشفى الزرقاء العسكري
في هذه المعركة، قدم حابس المجالي نفسه كقائد عظيم قادر على التعامل مع أقسى الظروف وفي ظل ضعف الإمكانيات للقوات العربية، وسجل الجيش الأردني في هذه المعركة واحدة من أنصع الصفحات في التاريخ العربي الحديث، ولذلك قال مؤسس الكيان الإسرائيلي ديفيد بن غوريون عام 1949 أمام الكنيست: "لقد خسرنا في معركة باب الواد وحدها أمام الجيش الأردني ضعفي قتلانا في الحرب كاملة مع العرب".
وفي هذه المعركة، شاء القدر أن يتعرض الرقيب محمود فريحات للإصابة بشظية في رجله اليمنى، فنقله أحد رفاقه من ساحة المعركة لينقل لاحقا الى المستشفى العسكري في الزرقاء، وهناك أجريت له عملية جراحية ناجحة، ولكن بقيت هناك ندوب محل الإصابة ظلت آثارها واضحة طوال حياته فيما بعد.
وخلال العام الفائت، أي بعد مرور أكثر من 60 عاما على إجرائه تلك العملية، شاءت الأقدار أن يدخل محمود فريحات نفس المستشفى العسكري في الزرقاء بعد أن أصبح يعاني من ألام حادة في المعدة، وهناك تجلت الذكريات وتجسدت أمام ناظريه، فأخذ يعيد شريط ذكرياته بكثير من الألم والأمل بالعودة مرة أخرى الى العسكرية ليخدم الوطن مرات ومرات.
تضحيات
أجريت فحوصات للرقيب فريحات، وأكتشف الأطباء أثناء تصويره أن هناك بقايا شظايا حديدية ما زالت في رجله، فصدم هو ذاته وأهله كذلك، وليتذكر على الفور أن هذه الآثار باقيه في جسمه من أيام تلك الإصابة، أي أنها بقيت في جسمه أكثر من 60 عاما دون أن يعلم بذلك، فروى للأطباء قصة تلك الإصابة، ولتبقى ماثلة وشاهدة على التضحية التي بذلها الرقيب محمود فريحات من أجل الدفاع عن ثرى الاردن وثرى فلسطين.
إستطاع محمود فريحات نقش إسمه بحروف من نور في مسيرته الحافلة بالشجاعة والكرامة والإنتماء والتضحيات، كيف لا وقد خاض المعارك والقتال فوق الأرض التي سار عليها عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد وصلاح الدين الأيوبي.
كان بحق فارسا أردنيا وفارسا عربيا.. كان أبا حانيا مترفعا عن الصغائر.. وكان جنديا فذاً رابط الجأش ثابت الجنان، وكان رحمه الله عزيز النفس لطيف اللسان طيب المعشر حريصاً على وحدة أهله ورفعة عشيرته.
مثل شجرة بلوط
مات الرقيب محمود فريحات وهو صامد قوي الشكيمة مثل شجرة بلوط عتيقة في جبال عجلون، كان صلبا كسيف فولاذي صقلته أنامل الصناع الدمشقيين والبغداديين المهرة.. وادع مثل كرمة عنب يتفيأ العابرون بظلالها في ربوع سهول حوران.. كريم مثل نبع غزير يتدفق ماؤه نقيا عذبا طيبا ويسقي كل العطشى.. حليم مثل نسمة تدغدغ برطوبتها أحاسيس المرابطين على حدود الوطن يحمونه في يوم صيف قائظ.. لطيف مثل حبة مطر إستقرت على ورقة ياسمين في صباح يوم ندي.. رقيق نقي القلب مثل الثلج ناصع البياض.. وسيم مثل سنبلة شامخة على سفوح كفرنجة وراجب.. فارس تأبى الجياد إلا أن يمتطيها في ساحات القتال.. عنيد مثل صخرة كبيرة تستقر على إحدى تلال إربد.
حين تمر ذكراك، ستعبق الأجواء بروائح القيصوم والشيح والزعتر.. ستظل ذكرى محمود فريحات وردا يفوح على مر الأزمان،.. الليل طال كثيرا بظلمته، والخيل ستبقى تسأل عنك حزينة،.. أما النهر فقد غادرته الحمائم البيض ولم تعد..