حين كان الألمان يحتفلون بهدم سور برلين قبل ما يقارب الربع قرن كانت أقطار عربية على موعد مع بناء أسوار منها الايديولوجي ومنها ما يشيد بالاسمنت، تماماًَ كما ان العالم في ذلك الوقت كان يبحث عن سياقات اقتصادية وثقافية وأمنية تلتئم خلالها الدول الصغرى، فيما يجدد العرب صلاحية الدولة القطرية المنكفئة داخل شرنقتها، انها سباحة مضادة للتاريخ، وقد تنتهي الى انتحار قومي اذا لم يوضع لها حد.
في بغداد التي عاشت عمرها تحت سقف حضاري واحد ولم تختلف حول الطائفة التي ينتسب اليها المتنبي والفراهيدي والسياب اقترح السابحون ضد التاريخ بناء أسوار بين الكاظمية والأعظمية، ومن شجع هذا التوجه هم هؤلاء الاشبه بالأم الكاذبة التي قبلت حكم القاضي بشطر طفلها الى نصفين بالمنشار.
وجربنا من قبل ان تكون هناك بيروت شرقية وأخرى غربية، رغم ان اللبنانيين لا يختلفون طائفيا حول فيروز ووديع الصافي وشجرة الارز والشعر المهجري وخليل حاوي الذي تدفق الدم من قلبه ليغمر الشرقية والغربية معاً عشية الاجتياح!
العالم يتجه نحو الالتئام والعرب كعادتهم اختاروا من بين مخلوقات الله الأميبا والدودة الشريطية والهايدار لأن عبقريتهم طالما تجلت في الانشطار وخصخصة الهوية الوطنية، بدءاً من قيس وعين والأوس والخزرج مروراً بالغساسنة والمناذرة حتى الاشتباك هذا اليوم في مدينة طرابلس بين التبانة ومحسن.
والمطلوب على ما يبدو هو تعميم شطري مدينة طرابلس على مدننا العربية كلها بحيث يكون لكل واحدة منها جبهتان تحملان أسماء اخرى ليست بالضرورة تبانة طرابلس ومحسنها!.
حدث هذا في القاهرة أو أوشك ان يحدث، وكأن الجغرافيا السياسية الجديدة للوطن العربي هي اعادة رسم التضاريس وخطوط الطول والعرض طائفياً ومذهبياً!
قتلى طرابلس من التبانة ومحسن لبنانيون، وقتلى ليبيا ليبيون وقتلى العراق عراقيون وقتلى مصر مصريون، لهذا لا قيمة للجداول التي تنسب هذا الرقم أو ذاك من القتلى الى فصيل أو حزب أو جهة.
أذكر ان صديقاً ارسل لي بطاقة معايدة من برلين كانت قطعة صغيرة جداً من سور برلين المهدم، ولم يخطر بباله ان يقول لي احتفظ بها لأن مدن العرب تحتاج الى اسوار.
وأخطر هذه الاسوار ليس من حجر وأسمنت وفولاذ، بل هو من مفاهيم وثقافات بائدة، وعصاب طائفي وصراع قبائل.
تبانة طرابلس ومحسنها ليستا خاتمة المطاف اذا استمرت الذهنية ذاتها، وقد فتك بها فيروس التذرر الوطني وقابلية الواحد للقسمة على الف!!
(الدستور)