حتى ساعات ما بعد ظهر يوم الخميس، لم يكن هناك ما ينبئ بحدوث مفاجأة في "الأعيان"؛ طاهر المصري على الأرجح هو رئيس المجلس لدورة ثانية. المعلومات المسرّبة عن التشكيلة كانت شحيحة ومضللة بعض الشيء، فما من أحد في الحكومة يعرف القائمة النهائية التي ظلت مكتومة ضمن دائرة ضيقة من كبار المسؤولين في القصر.
قبل إعلان التشكيلة بنصف ساعة تقريبا، تلقى المصري اتصالا هاتفيا حسم كل شيء. المتصل كان جلالة الملك شخصيا؛ أبلغ المصري بالتغيير في رئاسة الأعيان، ووجه له الشكر على ما قام به من مجهود وما قدم من خدمات خلال رئاسته للمجلس.
توقُع الرئيس الجديد للمجلس لا يتطلب طول تفكير، إنه عبدالرؤوف الروابدة، نائب الرئيس في المجلس السابق وأول رئيس وزراء في عهد الملك عبدالله الثاني، سياسي عريق ورجل إدارة وقانون مشهود له.
اختيار رئيس الأعيان وأعضاء المجلس حق حصري للملك حسب نص الدستور الذي يحدد الفئات والطبقات، بالمعنى الوظيفي، التي تشملها العضوية. ولهذا اكتسب وصف "مجلس الملك".
ودرجت العادة أن لا تجري مشاورة المرشحين لعضوية المجلس عند اختيارهم، ويشمل هذا التقليد رئيس المجلس أيضا.
وما على الطامحين إلى دخول "الأعيان" سوى انتظار نشرة أخبار الساعة الثامنة على التلفزيون الأردني مساء يوم الخميس، الموعد الدائم لصدور الإرادة الملكية، لمعرفة إن كانوا من المبشرين بالأعيان أم لا.
وكثيرا ما انطوت تشكيلات المجالس السابقة على مفاجآت تهون معها مفاجأة المصري، لعل أكثرها طرافة ما حدث مع رئيس الوزراء الأسبق عدنان بدران. يومها، كان بدران في مكتبه بالدوار الرابع ينتظر برفقة نائبه مروان المعشر صدور التشكيلة الجديدة لمجلس الأعيان، ليُفاجأ بعد أن قدمها له أمين عام الرئاسة بوجود اسمه واسم المعشر ضمن التشكيلة.
على الفور، اتصل المعشر، وبإلحاح من بدران، مع الدكتور معروف البخيت الذي كان رئيسا لمجلس الأمن الوطني في الديوان الملكي، ليستفسر منه عن مغزى تعيين رئيس الوزراء في مجلس الأعيان. في الحقيقة، لم يكن الأمر يحتاج إلى سؤال عن مصير الرئيس وحكومته، فقد كانت الخطوة مقدمة لاستقالتها في اليوم التالي.
طاهر المصري ترأس مجلس الأعيان لأربع سنوات بالتمام والكمال، كان دور المجلس خلالها مختلفا عن مجالس سابقة. مواقف المصري المنحازة للإصلاح وممارسة الأعيان لدور تشريعي ورقابي متحرر من الاعتبارات التقليدية، تركت أثرا إيجابيا على أداء المجلس.
وفي محطات عديدة، تفوق أداء الأعيان على النواب، ونالوا عليه الثناء من الرأي العام، في وقت كانت فيه شعبية النواب تتراجع على وقع حالات العنف المتكررة تحت القبة، والانحياز لمصالحهم على حساب المصلحة العامة.
تنشيط الأعيان وتحفيزهم على ممارسة دورهم الرقابي والتشريعي، كما نص عليه الدستور، لم يكن يروق لرؤساء حكومات ومسؤولين في مواقع متقدمة، وكانوا يحمّلون المصري المسؤولية عن ذلك. لا بل إن البعض اتهمه بتحريض الأعيان على معارضة الحكومات وانتقاد سياساتها، خلافا للوظيفة التقليدية للأعيان، والمتمثلة في دعم الحكومات من دون نقاش.
وبعد انتخاب مجلس النواب الحالي، جرت محاولة للإطاحة بالمصري، وذلك بدعم مرشح من أصل فلسطيني لرئاسة النواب. غير أن المحاولة لم تفلح، واستمر المصري "على مضض" رئيسا للأعيان.
المصري لم يكن معارضا؛ كان على الدوام في خندق الملك، منحازا لبرنامجه الإصلاحي، ومؤمنا بقدرة القيادة الأردنية على تقديم النموذج للعالم العربي كله.
لا بل إن المصري كان متهما من المعارضة وبعض نشطاء الحراك الذي كان منفتحا عليه، بأنه "لين" ولا يتخذ مواقف صارمة من السياسات الحكومية.
لكن بين هذا وذاك كانت تكمن قيمة المصري ودوره؛ نزيه ومستقل، يسعى لأن يكون الجميع، ومن مختلف المشارب والآراء، في ملعب الدولة لا خارجه. لهذا، اكتسب احترام الجميع؛ عملة سياسية نادرة في سوق الساسة الأردنيين، لن تخسر من قيمتها شيئا بمجرد أن غادرت موقعا من مواقع المسؤولية.
(الغد)