يُجمع علماء الإجتماع، والمنشغلون بالعلوم السياسية والدراسات الاستراتيجية، على أن الدول القادرة على البقاء، في هذا الزمن، هي الدول القويّة. أما الضعيفة منها فإنها، بالضرورة، ستنتهي إلى أحد مصيرين؛ الفناء أو التبعيّة والعبوديّة. وحتى يمكن أن تحقق الدولة أسباب بقائها لابد من أن تحقق عناصر القوة التي تدور حول وجود قيادة حكيمة راشدة التي تعرف حدودها وإمكانات الكيان الذي تديره. وهنا لابد من الحديث عن إيجاد قيادة متماسكة متصالحة مع الأسس الحديثة للحكم، وقادرة على إدارة مفاصل الدولة، سواء ما تعلق بالأفراد أم ما تعلق في شكل التواصل بينهم وبين السلطة. إضافة إلى أخذ هذه القيادة بمبدأ توسيع قواعد المشاركة السياسة الشعبية في عملية صنع القرار واتخاذه.
وعلى جانب آخر، وحتى تنخرط الدولة في مدارات القوّة، يجب الذهاب بكل اقتدار نحو وضع تشريع عادل وعصري، يحفظ العدالة ويصونها، الأمر الذي يحقق الرضا الحر لدى المواطنين. علماً بأن كل الأدبيات السياسة، وكل فواصل الفقه القانوني، تتلاقي وتتطابق حول الإصرار على أن الدولة القوية الحديثة هي دولة القانون.
وتساوقاً مع ذلك، فيجب على أطراف الدولة كلهم، البحث عن إقامة اقتصاد قوي قادر على مواجهة الاحتياجات والمطالب.
خاصة إذا ما أدركنا أن الاقتصاد، في العصر الحديث، أصبح هو الذي يقود كل حراك في الكيانات السياسية والاجتماعية والأمنية والتقنية وحتى الفكرية والثقافية. فالدولة «المحتاجة» هي دولة فاقدة لكثير من مظاهر السيادة، وتغدو بائعةً لقرارها السيادي في أسواق النخّاسة، وتصبح سلعة تباع وتشترى في مزادات الدفع.
إن على الدولة حتى تصبح دولة قوية أن تنشئ جيشاً وطنياً احترافيّاً، يستطيع أن يحمي الأرض والمكتسبات، وذلك في زمن أصبحت فيه القوّة العسكرية مناط كل أمن وحماية وصيانة.
والجيش، إلى جانب بقية المؤسسات المدنية، هو محط الاحترام في وقت بات فيه «قانون القوّة» هو المسيطر بعد أن أُطيح بمفهوم «قوّة القانون».
إضافة إلى ذلك على الدولة حتى تستكمل جوانب القوّة أن تحسن إدارة الآلة الإعلامية، وأن تضعها على أعلى مستويات المهنيّة والحرفية والعلميّة، وأن تقيم منها أجهزة واعية قادرة على إقامة الحوارات والاتصال مع المؤسسات السياسية والفكرية والثقافية والاجتماعية الدولية، مع الإدراك أن ثورة الاتصالات والتكنولوجيا قد جعلت من العالم ساحات مفتوحة، ومعرّضة كل لحظة إلى هبّات التأثر والتأثير.
وهنا لابد من الإقرار أنه من العَشَى الفكري أن نظل ندور في مقارباتنا حول العناصر التقليدية لبناء الدولة القويّة، وذلك بعد أن بدأنا نشهد قيام تغيّرات هائلة وتطورات مذهلة من الصعب الإحاطة بها جميعاً ومتابعة تفاصيلها كافة.
ومن مثل ذلك مسارات العولمة وحقائق التقنيات والأسلحة غير التقليدية، والإدارات الاقتصادية التي تذهب إلى مطارح كثيره فيها من التعقيد والصعوبة ما يحتاجان إلى كثير من البحث والتنقيب والتطوير والحداثة.
ومترافق مع ذلك على الدولة، حتى تمتلك عضوية القوّة في المجتمع الدولي، أن تُحسّن إدارة علاقاتها الدولية بعد أن أصبح «الاعتماد المتبادل» بين الدول مظهراً أساسياً من مظاهر البقاء والاستمرار والثبات والفاعليّة.
وهكذا فإن علينا، نحن في الأردن، أن نبدأ بدراسة مفهوم الدولة القوية الحديثة على أسس من العلمية والموضوعية والجديّة. وأن نأخذ من رسائل جلالة الملك، سواء ما كان منها نصياً أو توجيهاً أو فعلاً مباشراً، هادياً لبدء مسيرة طويلة وصعبة وشاقة، ولكنها هي المسار الوحيد المفضي إلى السلامة.
(الرأي)