سليمان عربيات: رحيل متوقع إلى القمر الذي كتب عنه"*جمال الشلبي
24-10-2013 10:26 PM
مع خبر انتقال الأخ والصديق الخالد فيها سليمان عربيات اليوم الأربعاء الموافق 23 تشرين الأول/ أكتوبر 2013، أشعر بالعجز أن أكتب عنه ( له ولنا) لحالة الحزن والكأبة التي روادتني منذ سماع هذا الخبر. ومع ذلك، فقد قادني عقلي لأن أعيد نشر ما كنت قد كتبته عنه في مقالة خاصة بعنوان" " سيرة سليمان عربيات: ذاكرة وطن ومرآة هوية" ضمن كتابه" وجه القمر" الذي نشره في العام 2012، كتعبير وإعلان عن وفائي وإخلاصي لروحه الطاهرة والشجاعة.
أن تكتب تعليقاً أو نقداً لكتاب على شكل "سيرة ذاتية"؛ فإنك تحتاج لمعرفة خاصة للتوغل عميقاً في فكر صاحبها والإحاطة برؤاه. وأعتقد أن ثلاثة عناصر كافية لتسليط الضوء على كتاب " وجه القمر" وصاحبه الصديق والأخ الكبير سليمان عربيات، الصادر عن دار ورد الأردنية في عام 2012. فمن الصعوبة بمكان أن تكتب فكرة أو نقداً، ذا روح وديناميكية، دون أن تعرف صاحب السيرة والمنطق الذي يحكم فكره.
بداية التعارف
لقد تشرفت بمعرفة صاحب هذه السيرة سليمان عربيات قبل سبعة عشر عاماً تقريباً، حيث كنت قادماً من فرنسا في عام 1995. وعلى الرغم من عدم قدرتي على الالتقاء بهذا الرجل بشكل منتظم، إلا أنني تابعت ما يكتب باستمرار عن السياسة والثقافة، عبر صحيفة الرأي" من ناحية، وما يقوم به بوصفه رئيساً لجامعة العلوم التطبيقية ومؤته.
ونتيجة للتحولات على رأس القيادات العليا في الجامعات الأردنية وصراعتها، تمّ نقل عربيات في العام 2009 من جامعة مؤتة إلى رئاسة الجامعة الهاشمية؛ حيث جلست بقربه لمدة عام كمدير لمكتب العلاقات الدولية؛ تعرفت فيها على شخصيته، وانفعالاته، وقرارته، ومواقفه الإدارية والإنسانية وغيرها ولا سيما في استقبال الوفود العربية والأجنبية، وتوقيع الاتفاقيات الثنائية.
لماذا "وجه القمر"؟
تدور محاور سيرة هذا الكتاب على ذاك الطفل الذي ولد في " الأول من آب عام 1938، في موقع ريفي يقع على بعد ثمانية كيلو مترات إلى الجنوب الغربي من مدينة السلط يقال له (ظهرة العبيد) حيث أقبل على الدنيا مولود ذكر لأب اسمه مفلح مفضي الموسى الأحمد العربيات، وأم اسمها أماني مطلق النمر العايش الدباس، وبعد تبادل الرأي بين الوالدين اختارا( سليمان) ليكون اسما لمولودهما الجديد".
وتتجلى أهمية السيرة الذاتية لعربيات لشخص عرف الحياة وجربها، وعرف مكامن القوة والضعف فيها في مجتمع عربي قبلي كان يبحث عن هوية، وعن بوصلة تقوده للدولة. فالهدف لمجمل السير الذاتية، بما فيها سيرة عربيات، يتمثل في الإحساس في لحظة من لحظات العمر بوطأة الزمن، وبضرورة تسجيل مرحلة من مراحل الحياة تأكيداً للذات ودفعاً لشبح الموت.
إن البحث عن الخلود من أهم العوامل الكامنة في عقل عربيات وروحه للكتابة، في حين أن مرض السرطان الذي أصابه عام 2000 كان هو الأساس المباشر، كما أعتقد، في رغبته في كتابته لهذه السيرة. كما أن السيرة الذاتية تحقق لكاتبها لذة فنية فريدة تتمثل في فعل الكتابة ذاته، ذلك أن كاتب السيرة يتلذذ باستحضار الذكريات السعيدة التي عاشها من موقع حاضره الذي يعيشه.
ويؤدي استحضار الذكرى، كذلك، دوراً يتعدى ذلك الإحساس باللذة الفنية منه إلى ضرب من العلاج النفسي، وهو ما عبر عنه إدوارد سعيد في كتابه (خارج المكان) بقوله: " لعبت ذاكرتي دوراً حاسماً في تمكيني من المقاومة خلال فترات المرض والعلاج والقلق الموهنة". يقول عربيات في "وجه القمر" ما يشابه ما قاله سعيد: "لقد غدت الكتابة والقراءة هاجسين لديّ، وأصبحت أفكاري مرتبة".
إن سيرة سليمان عربيات" وجه القمر" تعد بكل المقاييس والمعايير مكتملة الشروط لسيرة ذاتية على مستوى عالٍ من الصدقية، والوضوح؛ فهي تتخذ موقعاً وسطاً بين الأدب والتاريخ، وهذا اللون من التعبير الإنساني تتجاذبه سلطتان أو قوتان: سلطة الأدب وقوة التاريخ؛ لأن الكاتب يصوغ تاريخه الخاص صياغة أدبية.
ويمكن القول إن "وجه القمر" يمثل " ذاكرة ومرآة" في آن؛ فهي ذاكرة شخص ومرآة مجتمع؛ فيكرّس عربيات الفصل الأول من " وجه قمره" للحديث عن الجذور؛ لأن الجذور بالنسبة للعربي ولمجتمعاته تمثل " رأس مال اجتماعي" يستطيع من خلاله أن يحظى بمكانة تليق فيه وبعائلته وقبيلته" شمًر". ويتبوء المكان، ولا سيما الأرض وفلاحتها، ركناً أساسياً في سيرته معبراً عنها بالقول: " فما وجدي وحنيني إلا للحقول التي ولدت فيها وأمضيت السنين البواكر من عمري محلقاً في فضاءات العشق الطفولي الأولى".
ويبقى انتقال عربيات من التعلم عبر الكتاتيب إلى الدراسة في مدرسة ابتدائية اللاتين الدور البارز في التأثير على آرائه الدينية والإنسانية؛ فقد عرف التعايش والتسامح الديني بأعلى صوره وأسماه من ناحية، وكره التطرف والمغالين بالدين والمتاجرين فيه، في ما بعد، من ناحية أخرى.
تجارب سياسية لم تكتمل
وبدون مواربة أو تضخيم للذات، يعلن عربيات في الفصل السادس عن خطه السياسي" كنت مع الطرف الليبرالي أو قل اليساري الوطني مقابل الآخرين من الاتجاهات التي تضم الاتجاه الإسلامي وحركة فتح. وكنت في المناسبات الوطنية أو القومية أمثل الاتجاه الوطني اليساري، وكنت أوجه نقداً لبعض وزراء الحكومة".
كما أن تجربته السياسية "نقيباً للمهندسين الزراعين" عام 1982، ووزيراً للزراعة عام 1990، وكتاباته السياسية في صحيفتي الرأي والدستور كلها أكدت على خطه الثابت سياسياً وفكرياً. ولا شك، أن موقفاً سياسياً في العالم العربي" دون فلسطين" لا يعد موقفاً قومياً جاداً وحقيقياً، ولهذا تعد الكلمة التي ألقاها عربيات في نقابة المهندسين الزراعين عام 1983 دليلاً على الرؤية القومية له قائلاً : "عندما يكون الموضوع (فلسطين) يكون الحديث عن الوطن، وعندما يكون الحديث عن (فلسطين الوطن والشعب) يكون الحديث تاريخياً. وعندما يكون الحديث عن (التاريخ) يكون الحديث أمانة وموقفاً".
وبعد التحول الديموقراطي الذي شهده الأردن عام 1989، جاء عربيات مع حكومة السيد مضر بدران عام 1990 لمدة عام. يحكي عربيات تجربته هذه بالقول:" لقد توليت مهمتي وزيراً للزراعة في مرحلة لا أعتقد أنها ستتكرر ثانية، وهي المرحلة التي أطلقت عليها مرحلة (التحول الكبير) التي كان بإمكان أيّ واحد من أبناء الطبقة الوسطى أو الفقيرة أن يتولى موقعاً متقدماً في السلطة التنفيذية أو السلطة التشريعية إذا كان مؤهلاً لمثل هذا الموقع. ولا أعتقد أنّ مثل ذلك أمراً سهلاً في هذه المرحلة التي يتقدم فيها الصفوف أبناء الموسرين ليحتلوا المقاعد المتقدمة في الدولة مدعومين بمراكزهم أو مراكز آبائهم المالية وإرثهم السياسي".
وكعادته، ينتقد عربيات "آليات" الاختيار للمناصب العليا في الأردن، بذكاء وبفكاهة أيضاً قائلاً:لا أعرف كيف أصبحت وزيراً للزراعة، ولماذا أخرجت..!".
باختصار، استطاع كاتب" ضوء القمر" أن يستدعي أفكاراً، وأحداثاً ومواقف شخصية وعامة بوعي ومهارة. ولكن الأهم لديه هو أن يترك أثراً أدبياً يخلد ذكراه. ولذلك سيبقى سليمان عربيات عبر "ضوء القمر" حياً بقلمه وفكره. ومضيئاً بروحه وصورته، وقمره!