قلنا في المقالة التي سلفت، أن الأمة بموجب الدستور، هي مصدر السلطات، وقلنا أن هذه الأمة التي تنتخب النائب ليمارس نيابة عنها سلطة التشريع والرقابة، هي ليست مجموع الناخبين الذين انتخبوا النائب فقط، بل إن مفهوم الأمة يشمل جميع الأفراد من ناخبين وغيرهم، كما يشمل الأجيال القادمة أيضاً.
وقد لوحظ في الدراسات الدستورية، أن بعض المجالس المنتخبة، لا تستوعب هذا المفهوم الواسع للأمة، ولهذا فهي لا تأخذ بعين الاعتبار، وهي تمارس مهمة التشريع، حاجات جميع أفراد الأمة، الناخبين وغيرهم، ولا تنظر إلى ما ستخلّفه من إرث للأجيال القادمة، فتقوم بسنِّ تشريعات، ذات أهداف ضيّقة، لا تعبِّر عن الإرادة الحقيقية للأمة. فتأتي بصورة هبَّات متسرِّعة، أو نزعات عاطفية، لم ينضجها الدرس والتمحيص والفكر، تأتي لتمثِّل إرادة الأغلبية البرلمانية في المجلس ليس إلا.
وفي هذا السياق قد يجادل البعض، ويزعم أن الأغلبية البرلمانية، إنما تمثِّل إرادة الأمة الحقيقية، وكل ما يصدر عن هذه الأغلبية البرلمانية من تشريعات، لا بدَّ وأن يحقِّق رغائب الأمة، أو على الأقل أغلبية الأمة. وعلى سبيل المثال، فإن رفع رواتب تقاعد النواب، إنّما يمثِّل أمنيةً من أماني الأمة. وهذا الزعم يجافي الحقائق التي تفرزها صناديق الاقتراع من جهة، ويجافي الحقائق التي تنتج عن تطبيق القواعد الدستورية من جهة أخرى.
ونشرح ذلك -وبخاصة لغير المختصين- لتبيان حقيقة حجم الجسم النيابي الذي قد يوافق على التشريع، الذي لا بدَّ أن يطبّق على الأمة بكاملها، وعلى الأجيال القادمة أيضاً.
أولاً: نتيجة صندوق الاقتراع: تبيِّن الدراسات الدستورية أن المجلس المنتخب -بأجمعه- لا يمثل إلا أقليةً من عدد الأفراد الذين يحق لهم التصويت، ولا يمثِّل إلا قلّةً ضئيلة من عدد سكان الدولة.
وآية ذلك أن المجلس المنتخب لا يحصل على أي من الأصوات التالية:
1- الأفراد الذين لا يحق لهم الانتخاب لأسباب قانونية (كصغار السِّن ومنتسبي الجيش.. إلخ).
2- الأفراد الذين يحقّ لهم الانتخاب، ولكنهم لا يسجَّلون أسماءهم في جداول الانتخاب، أو لا يحصلون على البطاقات الانتخابية التي تمكنهم من ممارسة حق الانتخاب.
3- الأفراد الذين لهم حق الانتخاب، وقد حصلوا على بطاقاتهم الانتخابية، ولكنهم لا يذهبون يوم الاقتراع، لممارسة حقهم الانتخابي. وهؤلاء يتراوح عددهم في أغلب دول العالم حول نصف عدد الذين لهم حق الانتخاب.
4- الأفراد الذين يصوِّتون إلى المرشحين الذين لم يفوزوا في الانتخابات.
وكترجمة رقمية لهذه القطاعات من الأفراد، نُعرِّج على أرقام الانتخابات التي جرت في الأردن أخيراً، والتي أفادت بها الهيئة المستقلة للانتخاب.
في الانتخابات التي جرت في الأردن بتاريخ 23 كانون ثاني 2013، كان عدد سكان الأردن ما يقارب (7.5) مليون نسمة. وكان عدد من يحق لهم التصويت (3.5) مليون ناخب.
وكان عدد الناخبين الذين أدلوا بأصواتهم (1.288) مليون ناخب. وكانت نسبة المقترعين 21% من مجموع سكان المملكة. ولم تعلن الهيئة المستقلة للانتخابات نسبة الأصوات التي جاءت بنواب السابع عشر، إلى نسبة عدد المقترعين البالغ 21%.
ومن قراءة هذه الأرقام -لمن يرغب أن يقرأ- يتبيَّن أن مجلس النواب، لا يمثل في الواقع، إلا أقلية من عدد الذين لهم حق التصويت. ولا يمثل إلا أقلية ضئيلة من عدد سكان المملكة. ولا ندري ما ستكون عليه الحسبة، إذا ما أدخلنا الأجيال القادمة في المعادلة.
ثانياً: القواعد الدستورية الخاصة بالتصويت: تنص المادة 84/ 1 من الدستور على أن «لا تعتبر جلسة أي من المجلسين (أي مجلسي الأعيان والنواب) إلا إذا حضرتها الأغلبية المطلقة لأعضاء المجلس. وتستمر الجلسة قانونية، ما دامت هذه الأغلبية حاضرة فيها».
ولحساب الجلسة القانونية لمجلس النواب، نذكر أن عدد مجلس نواب السابع عشر هو 150 نائباً. والأغلبية المطلقة، بالمفهوم الدستوري، هي النصف+1. بمعنى أن توافر 76 من النواب في قاعة المجلس، يؤدي إلى اكتمال الجلسة القانونية.
ولحساب الأصوات اللازمة لصدور القرارات النيابية، المتعلقة بالتشريعات وغيرها، فقد نصَّت المادة 84/ 2 بالقول «تصدر قرارات كل من المجلسين بأكثرية أصوات الأعضاء الحاضرين ما عدا الرئيس... وإذا تساوت الأصوات، فيجب على الرئيس أن يعطي صوت الترجيح».
فإذا افترضنا أن الجلسة كانت قانونية بحضور 76 نائباً، فإن عدد أكثرية الحاضرين يكون 38، ما عدا الرئيس. وهو العدد الذي يساوي ربع عدد المجلس زائداً واحداً. وهو العدد الكافي لإصدار تشريع، سيطبَّق، إذا ما اجتاز جميع المراحل الدستورية، سيطبَّق على السبعة ملايين ونصف من الأردنيين الأحياء، وعلى الملايين من الأجيال القادمة.
وأمام هذا الوضع -الذي قد يتفاجأ به البعض- تحوَّطت الدساتير بإيجاد كوابح أو عوائق، لتقف في مواجهة الأغلبية البرلمانية، والغرض من هذه الموانع، هو الحرص على ألاّ تنفَّذ سوى الإرادة الحقيقية للأمة.
وقد سبق أن ذكرنا في المقالة التي سلفت، تلك الكوابح التي جاء بها الدستور، وهي لزوم تصديق الملك على القوانين، وشراكة مجلس الأعيان في التشريع والرقابة الشعبية والرقابة الصحفية وحل مجلس النواب.
وقد بقي في هذا السياق واحد من الكوابح المهمة، لم نذكره سابقاً، ولم يأت الدستور على ذكره، وهذا الكابح يتلخَّص بالرقابة الذاتية. فما هي الرقابة الذاتية، وهل يمارس مجلس النواب نوعاً من الرقابة الذاتية على ما يصدره من قرارات؟ هذا ما سنعالجه في التكلمة القادمة.
(الرأي)