لا يمكن وفق المفاهيم الأساسية التقليدية الغربية وصف المملكة العربية السعودية بالدولة المارقة، أو الدولة الشريرة أو الخارجة عن القانون الدولي!، وعلى العكس من ذلك فالسعودية دولة راشدة وذات سياسة محافظة، وهي معروفة عربياً واسلامياً بأنها الدولة التي تفعل أكثر مما تتكلم، ولها التزاماتها العربية والإسلامية والدولية، وهي التزامات جعلتها دولة موثوقة سياسياً لدى دوائر النفوذ في هذا العالم، وبالذات الولايات المتحدة وأوروبا الغربية عموماً!.
إذن، ما الذي أغضب السعودية لتخرج عن طورها المألوف وتبدي حالة من عدم الثقة بالمنظمة الدولية في شقيها الجمعية العامة للأمم المتحدة ابتداءً، ثم مجلس الأمن الدولي تالياً، في قرارين جريئين، الأول امتناع الأمير سعود الفيصل وزير الخارجية عن إلقاء كلمة بلاده أمام الجمعية العامة الشهر الماضي، والثاني وهو القرار القوي المتمثل باعتذارها عن قبول عضوية مجلس الأمن الدولي!.
لا يجد المتابعون عناءً في استجلاء أسباب الغضب السعودي، فمجلس الأمن الدولي الذي يفترض أن يكون سلطة عالمية تصب قراراتها ومواقفها في خدمة قضايا الأمن والسلام والعدل ولمصلحة العالم كله، لم يعد كذلك على الإطلاق، وإنما بات سلطة ترمي مواقفها وقراراتها إلى خدمة مصالح الدول الخمس الكبرى دائمة العضوية في هذا المجلس تحديداً، وليس لمصالح دول العالم الأخرى أدنى اعتبار في ذلك، وما التوافقات والتفاهمات الأميركية الروسية الأخيرة إن بشأن سورية أو بشأن ايران، إلا الدليل القاطع على صحة ووجاهة مقولة أن المصالح الأميركية والروسية بالذات، ومن بعدها مصالح إسرائيل وأوروبا دون سائر دول وشعوب الأرض كافة، هي المعيار الذي يحدد مواقف وقرارات مجلس الأمن الدولي من مجمل قضايا العالم.
هذه الحقيقة باتت اليوم أكثر سطوعاً، فالقوى الكبرى التي يملك كل منها حق "الفيتو" في تعطيل أي قرار مصيري لمجلس الأمن الدولي إن كان يتعارض مع سياساته ومصالحه، لا شأن لها أبداً إلا بمصالحها هي، ولا وجود لما تسميه قضايا الأمن والسلم والعدل وحقوق الإنسان في اعتباراتها، وما القضية الفلسطينية إلا الشاهد الأسطع على ذلك، خاصة عندما يستحضر المراقب جملة القرارات الصادرة عن المنظمة الدولية بشأن القضية منذ عشرات السنين دون أن تجد طريقها للتنفيذ، أو حتى لمجرد الذكر، فما يسمى بالفصل السابع في أدبيات مجلس الامن الدولي حكر تطبيقه على الدول العربية والإسلامية وتلك التي تتجرأ على معاندة "إرادة" القوى الكبرى، أما إسرائيل مثلاً، فدولة خارج إطار الخضوع للإرادة الدولية وقرارات هيئاتها الرسمية!.
لا إنكار لحقيقة أن السعودية التزمت طويلاً سياسات الاعتدال والوسطية والعقلانية، وساندت قرارات ومواقف الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، إلى الحد الذي عرضها للنقد والاتهام حتى من أقرب الناس إليها، وليس سراً أبداً أنها وغيرها تشعر بالخذلان وبالذات من جانب القوة الأولى في العالم "الولايات المتحدة"، والتي أخذت مواقفها المبدئية بالتحول والتغير المفاجئ من قضايا المنطقة والعالم دون أدنى اهتمام بمواقف حلفائها الاستراتيجيين ومصالح شعوب تتعرض للظلم والاحتلال منذ عقود طويلة، فبعد ان كانت الاستراتيجيات الأميركية تتعمق في مجافاة ايران مثلاً، تبدل الموقف في غضون أيام وليس أسابيع ليتحول إلى غزل سياسي اميركي بإيران، ونفض لليد من موضوع سورية وحصر ذلك بالسيطرة على السلاح الكيماوي، كما لو كان الملف السوري كله ينحصر في نظر واشنطن ومن معها في هذا الأمر تحديداً، ولا شأن لها بغير ذلك!.
العالم يتغير على مدار اللحظة، وما كان بالأمس مستحيلاً أو شبه مستحيل، بات اليوم ممكناً جداً، ولهذا فإن دول الاعتدال العربي بالذات، والسعودية والأردن في مقدمتها، مدعوة للنظر جدياً في كنه استراتيجياتها السياسية، والقناعة بأن أميركا الأمس لم ولن تعود أميركا الغد، وإن الثقة بمجلس الأمن والمنظمات الدولية باتت محط نظر ومراجعة، فلغة المصالح الخاصة هي التي تحكم توجهات الدول فرادى وجماعات إقليمية في عالم اليوم.
تملك السعودية ودول الخليج العربي ومعها الأردن ومصر، كل المقومات المادية والبشرية والمعنوية لمواجهة التحولات المرعبة في السياسات الدولية، وبناء قاعدة عربية اسلامية كبرى بمقدورها فرض المصالح الإقليمية العربية على طاولة الاهتمام الجاد في ذهنية القوى الكبرى، وصون المصالح الفردية والجماعية لهذه الدول، وإرغام كل قوي في هذا العالم للخضوع لإرادتها وإرادة شعوبها، لا بل وإرغام اسرائيل بالذات على الانصياع للحق والجلاء عن أرض العرب والقدس الشريف في مقدمتها، فإذا ما كانت واشنطن قد استمرأت طويلاً إنحياز معظم العرب نحو سياساتها، فإن عليها أن تعي اليوم أن العرب أقوياء بالحق وأنهم ليسوا في جيب أحد، وأن صداقة أميركا لا تعني عندهم التخلي عن مصالحهم من أجل سواد عيونها!.
على العرب جميعاً، التضامن مع الموقف السعودي القوي ألمعبر إن لم يكن من أجل العروبة ومصالحها، فليكن من أجل إشعار واشنطن وموسكو ومن يدور اليوم في فلك ترتيباتهم الجديدة المنافية لمصالح العرب، بأن العرب أحياء يرزقون وبمقدورهم قلب كل الطاولات في وجه من يتنكر لهم ولمصالحهم الإستراتيجية!.
والله من وراء القصد.
شحادة ابو بقر