لقد كانت ندوة غنية وثرية وذات مضمون متميز من حيث المداخلات والأسئلة والإضافات التي تمت في منتدى الفحيص الثقافي، في أمسية جميلة يوم السبت الماضي تم تخصيصها للحديث حول المبادرة الأردنية للبناء (زمزم)، وما تضمنته من أفكار وطروحات، وما أثير حولها من حوارات وتساؤلات.
من أهم النقاط التي تم التركيز عليها تلك المتعلقة بموضوع الطرح الذي يركز على صبغة التعاون والمشاركة بين جميع المكونات الاجتماعية والسياسية في تحمل مسؤولية إدارة المرحلة، ودون استثناء أي فئة ودون إقصاء أي طرف مهما كانت درجة الاختلاف والتباين في الفكر أو المعتقد أو المذهب أو الاتجاه السياسي، وكان السؤال الواضح ينصب حول دور المسيحيين على وجه التحديد في هذه الطروحات، وهل المسيحيون بنظر الإسلام هم مواطنون أم تابعون ذميون يدفعون الجزية ؟!
وهنا أود توضيح مسألة فقهية وسياسية، لكل باحث عن الحقيقة المدعومة بالدليل الصحيح، والتأصيل الشرعي السليم، الذي تم تجليته بوضوح منذ مجيء الرسول العربي محمد صلى الله عليه وسلم، إذ أنه جاء بمنتهى الوضوح لتحقيق هدف كبير لا جدال فيه ولا مراء، يتمحور حول (تحرير الانسان) عقلاً ونفساً وإرادةً ووجداناً، ورفع القهر والعبودية والتسلط بكل أشكاله وألوانه ومضامينه، ولم يقصد التسلط على عقول الناس وأبشارهم، ولذلك استقبل وفد نصارى نجران واستضافهم في المسجد وهم بلباسهم وصلبانهم وعمائمهم، وأدوا صلاتهم في المسجد، واستقبلهم بحفاوة وتكريم، واحترام وتقدير، وكتب لهم كتاباً، ما زال محفوظاً بكتب التاريخ والوثائق، حيث جعلهم مواطنين كاملي المواطنة، وجزءاً من شعب الدولة، لهم حقوق المواطنة، وعليهم واجباتها، لا فرق بينهم وبين المسلمين، وهذا ما جعله الفقهاء قاعدة متفق عليها، بحسب القول المأثور عن سيدنا علي كرّم الله وجهه عندما قال: «لهم ما لنا، وعليهم ما علينا»، أي لهم ما لنا من الحقوق، وعليهم ما علينا من الواجبات، فهم شركاء في الأرض والوطن، وشركاء في السلطة والمسؤولية وشركاء في المال والثروة، وشركاء في الغرم والغنم.
ومن حيث المسؤولية والحق في استلام المنصب واشغال وظائف الدولة العليا، فقد ارسى القرآن معياراً محدداً وواضحاً، لا يناقض العقل ولا يخالف المنطق، ويؤيده العلم ومحل إجماع البشرية، وهو ما جاء على لسان ابنة الرجل الصالح على ماء مدين، بخصوص (موسى) عليه السلام قبل النبوة، عندما قالت لأبيها (يا أبت استأجره، ان خير من استأجرت القوي الأمين)، ولذلك فإن المعيار الصحيح في التوظيف والتوزير وتحمل المسؤولية يتلخص بأمرين؛ الأمر الأول: القوة، التي تعني القوة في العلم والتخصص والخبرة والتجربة، والقوة في الإرادة وفن التعامل، والقوة في النفس والبدن، والأمر الثاني : الأمانة، ويقصد بها هو ذلك الوازع الداخلي الذي يجعله مستأمناً على أموال الناس، وأعراضهم وممتلكاتهم وأبنائهم وأرضهم ومستقبلهم، وهذا ما تحتاجه إدارة الدولة بغض النظر عن المعتقد أو المذهب أو الأصل أو الفصل.
وبناءً على ما سبق فان المسيحيين جزء أصيل من النسيج الوطني، وعرب أصلاء، قد أسهموا في الإنجاز الحضاري العربي الإسلامي مع اخوانهم المسلمين، وكان لهم دور مقدر محفوظ لا يمكن تجاهله أو الانتقاص منه، وهذا ما يثبته التاريخ الموثق الصحيح.
(الدستور)