عند الحديث عن الديمقراطية لا بد من التركيز على العلاقة التي تربط المحكوم بالحاكم ، وما ينتج عنها من أشكال ملموسة و فاعلة للأخذ بها منهجا للحكم .
و في ضوء الأوضاع التي تعيشها الأنظمة الحاكمة ، لا بد من الحديث عن الأشكال المختلفة التي تتخذها الديمقراطية في التطبيق ، حيث يجب توافر المكونات الأساسية لتطبيقها و أهمها : حقوق المواطن الأساسية التي تحدث عنها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ؛ و أهمها الحقوق الاجتماعية كحق العمل و التعليم و الصحة و الرعاية الاجتماعية .وممارسته لهذه الحقوق تجعله مشاركا فعلا في وضع القرارات التي تمسه على مختلف المستويات . أما المكون الأخر من مكونات الديمقراطية فهو التعددية السياسية حيث تعطى القوى السياسية حقها في التعبير عن وجودها بالمشاركة في الانتخابات ، و يفترض منح الفرص أمام تعدد الاتجاهات السياسية التي يختار المواطن من بينها من يمثله .
إن من المستحيل أن يملك حزب واحد الرؤية الكاملة لتحقيق التقدم و إسعاد المواطنين في غالبيتهم العظمى , و إن سيطرة الرأي الواحد تؤدي الى الجمود و افتقار القدرة على الإبداع . إن تعدد الاتجاهات السياسية و اختلاف وجهات نظرها حول مسائل العمل الوطني ، من العوامل الأساسية التي تمكنها على الابتكار و التجديد ، و الاقتراب من الصواب أكثر . أما الأساس الآخر لتطبيق الديمقراطية فهو تداول السلطة ؛ إذ لا معنى للتعددية السياسية إذا لم يُتح للاتجاه السياسي الذي يحظى بتأييد الأغلبية أن يتولى السلطة لينفذ البرنامج الذي نال تأييد المواطنين عليه. والمميزة الكبرى للديمقراطية هي توفير الأدوات الشرعية لتداول السلطة بعيدا عن الانقلابات و التصفيات . و هذه الأدوات تجعل من الشعب الحكم بين الاتجاهات السياسية المتعددة.
إن مفهوم الديمقراطية لا يتعلق بعلاقة الحاكم بالمحكوم فقط ، بل يعني علاقة المواطنين في كل شكل تنظيمي يجمع عددا منهم ، و من هنا تبرز أهمية ممارسة القوى المعارضة للديمقراطية . فالأحزاب السياسية و المنظمات الشعبية و النقابات هي المدارس التي يتدرب فيها المواطن على ممارسة حقوقه و أداء واجباته بأسلوب ديمقراطي . و تتحمل الأحزاب التي تتصدى لقيادة الجماهير مسؤولية كبرى في إشاعة الديمقراطية في حياة المجتمع ، و نشر الوعي السياسي بين الناس . و الممارسة الديمقراطية يجب أن تحتل مكانا بارزا في النشاط التثقيفي لتسييس الجماهير . و على الأحزاب أن تمارس الديمقراطية داخلها ، و بين بعضها البعض . و لا بد هنا من التأكيد على مصداقية الأحزاب في تعاملها الديمقراطي مع نفسها و مع القوى الأخرى ، و مع الجماهير التي يجب أن تشعر أن الأحزاب تطالب بالديمقراطية لها . و أن تقنعها بأن الديمقراطية قضية الجميع و ليست قضية أحزاب وقوى معارضة تريد أن تصل الى الحكم فحسب .
تكوَّن بعض الأحزاب في البلاد العربية على أسس طائفية و عشائرية . و تشكيل الأحزاب في لبنان دليل صارخ على طبيعة هذه الأحزاب التي تكونت على جذور طائفية و مذهبية ، على الرغم من الأسماء ذات الصفات التقدمية و القومية التي أطلقها مؤسسوها عليها . و الأحزاب في الدول العربية الأخرى التي تتجاوز المذهبية و العشائرية ، و تطرح نفسها من منظور سياسي ، سرعان ما تكتشف أن عضوية أعضائها تأتي من العشائر و الطوائف في المجتمع الذي تناضل فيه ، و هذا ما يجعل المهام النضالية للحزب غاية في الصعوبة .
و إذا ارتفعت نضالات الأحزاب و القوى الوطنية و الديمقراطية ضد العشائرية و الطائفية ، فإنها يمكن أن تحقق نجاحا في ترسيخ الديمقراطية و تخليص الوطن من عوامل الانقسامات و التشرذم التي تتمثل في الطائفية و المذهبية و العشائرية .
كما نشأت بعض الأحزاب و توحدت في شخص قائدها ، بحيث أصبح قوله لا يُرد ، و تمثل مشيئته إرادة الحزب ، و بخاصة إذا وصل الحزب للحكم ، فتصبح كلمة زعيم الحزب هي كلمة القطر الذي يحكمه ، و كأنما اختزل الحزب و المواطنون جميعا في شخص القائد . و غالبا ما تتحول ظاهرة الزعيم الأوحد الى بطش الأجهزة الأمنية بحجة الدفاع عن الزعيم و الوطن و الحزب .
إن الوطن لا يحتاج إلى قائد إلى الأبد ، بل الى حكومة مركزية قوية و رئيس دولة منتخب ليحكم بالعدل دون تمييز بين المواطنين .
و لعل المعارضة بتعدديتها و اشتراكها معا في الدفاع عن الديمقراطية ، أن تعطي للجماهير صورة عن تلاقي التعددية ، و الحفاظ على تيار جبهوي واسع . و هذا هو جزء من الممارسة الديمقراطية التي يجب تطبيقها و شرحها للجماهير ، و بيان أنها تعني إمكان تغير الحكومات دون أن تنهار الدولة ، و أن هذا التغيير من شأنه أن يرفع مستوى أداء الجهاز الحكومي المركزي ويضعه في خدمة غالبية المواطنين .
إن الأحزاب و الحركات الوطنية التي نشطت في النصف الثاني من القرن العشرين ، حققت فيها حركة التحرر العربي انتصارات و هزائم و تغييرات متعددة . و قد شاب نضالها من العوامل الذاتية بحيث عجزت عن التعامل مع الواقع الموضوعي تعاملا مؤثرا .
و إن أهم قصور رافق هذه القوى هو تدني المحتوى الديمقراطي لتوجهات مجمل القوى التقدمية العربية ، و افتقارها لممارسة الديمقراطية . و إن من غير المعقول أن يمارس حزب ما في تعامله مع أحزاب و قوى أخرى الديمقراطية ، و لا يمارسها في حياته الداخلية . فهل يمكن أن تنظر الجماهير الى هذا الحزب نظرة مصداقية ، وهو لا يمارس الديمقراطية في داخله ؟.
إن الأحزاب التي تناضل لتغيير الوضع القائم و إصلاحه في الدولة ، بحاجة ماسة الى تنظيم قوي متماسك و مرتبط بقاعدة شعبية تتعاطف معه و تسانده . و إن التزام عضو الحزب بقرارات الحزب ، إذا لم يقابله حق العضو في اختيار القيادة ، هو إهدار لحق العضو في حرية الرأي و الاختيار لهذا، يجب أن تتشكل القيادات الحزبية بمختلف مستوياتها ، عن طريق الانتخاب بحرية مطلقة و بسرية تامة ، وليس بالتصويت العلني على قائمة معدًة سلفا . وأن يكون الانتخاب دوريا تجديدا لشباب الحزب و خوفا من خطر القيادات الأبدية التي لا يتخلص منها الحزب إلا بالموت . على أن يكون هذا التجديد من خلال الشرعية التي تستند على دستور الحزب و نظامه الداخلي اللذين يوضحان حقوق وواجبات العضو.
إن الحزب هو القاعدة و ليس القيادات . و الأحزاب الحقيقية هي التي تتجاوز مؤسسيها ، و تجدد قياداتها ، مع الاستمرار في دعم عضويتها ، واستمرار نفوذها بين الجماهير لتزداد كوادرها ، و تبرز من بينها عناصر قيادية قادرة على تحريك الجماهير ، مع التغيير المستمر الذي هو سمة الواقع الاجتماعي و الفكري البشري .
وهذا كله لا يأتي إلا بديمقراطية التنظيم ، ونظام ودستور الحزب القابل للتعديل والتطوير بأسلوب ديمقراطي يعبر دائما عن أداء ومشاعر الأعضاء .
لا يمكن للحزب أن ينمو و يتزايد نفوذه ، إلا إذا كان يسمح بوجود منابر داخله تبرز الآراء المتعددة . وهنا يجب أن نميز بين وحدة الإرادة الحزبية و تعدد الاتجاهات . فالحزب جهاز يعمل بين الجماهير لإجراء تغييرات في المجتمع و الدولة . ولا يمكن أن يلعب هذا الدور إذا أظهر للجماهير أنه مسرح للمناكفات الداخلية و الخلافات السياسية حول القضايا التي يناضل لتعبئة الجماهير من أجل تحقيقها .
و إن الطريق الأمثل لتداول المراكز القيادية في الأحزاب هو إجراء الانتخابات الدورية لانتخاب القيادات على أساس القدرات النضالية و الفكرية و السياسية . وبهذا يصبح الحزب أكبر من أي قائد و يتخلص من العشائرية و الولاء الشخصي . وبدون ممارسة الديمقراطية يكون الحزب دائما مهددا بالانقسام و التشرذم . و يمكن أن يصبح الصراع دمويا لحسم الخلاف في الرأي بين رفاق النضال.
لقد مارس معظم الأحزاب العقائدية النضال السرِّي لضرورات أَمنية ، مما حال دون ممارسة الديمقراطية داخل الحزب .
و قد عشتُ طويلا تجربة النضال السرِّي ، وما تفرضه من قيود تحول دون عقد مؤتمرات الحزب ، و عزل المنظمات الحزبية عن بعضها البعض ، حتى إذا وقع أحدها بيد الأجهزة المخابراتية و الأمنية ، لا يؤدي سقوطه الى ضرب الحزب كله .
غير أن تجربتي في العمل السرِّي خلقت في نفسي قناعات بأن القضايا التي تفرضها ظروف السرِّية يمكن معالجتها بروح ديمقراطية ، كممارسة أسلوب التشاور حين يتعذر الاجتماع ، و الاستمرار في التثقيف الديمقراطي . وإن عرض مقتضيات السرية على أنها الأصل ، ترسخ معاني الشك في الغير و التخوف من كل من لم يمارس العمل السري . وإذا خرج الحزب من السرِّية الى العلنية مباشرة ، فإنه يعجز عن التخلص من الرواسب السابقة ، و يتقبل أعضاؤه بسهولة الإنفراد بالحكم ، و الاعتماد المبالغ فيه على أجهزة الأمن وخشية كل تحرك جماهيري لا ينظمه أو يسيطر عليه الحزب !
لقد تعاملت الأحزاب و القوى السياسية مع مبدأ الديمقراطية فيما بينها تعاملا سيئا ومفجعا و دمويا . فقد سقط بقتالها مع بعضها العديدون . كما سقط من أعضاء الحزب نفسه بعد الاستيلاء على السلطة العديدون . كما أسرفت تلك القوى في اتهام بعضها و ألصقت بها تهم الخيانة و العمالة وخدمة العدو .
وحين نسترجع العقود الماضية من الزمن التي مرت يصيبنا العجب لاستمرار بعض الجماهير الالتفاف على بعض الأحزاب وهي تطالب هذه الجماهير اليوم بالنضال من أجل الديمقراطية . إن الوقت ليس للتباكي على ما مضى ، ولا توزيع المسؤوليات على فصيل دون غيره ، فالكل مسؤول ، و الجميع ساهم في تضيع فترة زمنية نضالية عزيزة . وقد آن الأوان لاستخلاص الدروس ، و الضرورة الملحة لممارسة التعامل الديمقراطي بين الفصائل وفي داخلها جميعها قومية و يسارية و إسلامية دون تمييز أو إقصاء .