كأنه بلد افتراضي ومتخيل أو محذوف من التضاريس القومية لعرب هذا الوقت، منذ احتلاله قبل عشر سنوات وعاشوراؤه موزعة بالتساوي بين الطائفتين، ما دام الموت قد حقق أخيراً العدالة المنشودة من الاحتلال، فعن أي عراق يتحدث هؤلاء، بل يرطنون؟
كان العراق ذات عروبة غاربة محوراً في نشرات الاخبار، ليس بعدد قتلاه يومياً بل بالفعاليات السياسية والثقافية التي تجتذب العرب من كل فج، وما ان وقع حتى شحذت السكاكين كلها، فهل من المعقول ان يحصي العراقيون ومراسلو الفضائيات من ارض الرافدين ايامهم بعدد القلتى؟
وهل حقق الاحتلال هدفه الأبعد وهو التدمير الشامل لحاضرة عربية عريقة لم يقترف الملايين من اهلها من الجرائم ما يبرر هذا العقاب الجماعي؟
ان أخطر ما في المسالة العراقية ليس مشاهد التفجير والتفخيخ والدماء، بل تحول هذه المشاهد الى شيء عادي ومألوف لا يستوقف أحداً.
انه حصار اللامبالاة الأنكى من اي حصار، وكأن العراق زائدة قومية استراح منها الجسد العربي العليل.
كم نشعر بالخجل ونحن نقف مكتوفي الأيدي ومشكومي الالسنة ازاء ما يجري في العراق.. ففي الماضي كانت العين بصيرة واليد قصيرة، لكن ما حدث بالفعل هو ان العين عوراء واليد مبتورة من الكتف!
فهل حذف العراق من المشهد لأن هناك من ينافسونه على الموت يوميا؟ أم ان الضمير القومي والانساني تسلل اليهما سرطان العولمة مثلما تسلل الزهايمر الى الذاكرة؟
ان المسألة العراقية تبدو الآن كما لو انها اشكالية كبرى غير قابلة للحل فمن كانوا يبادرون ضجروا وكلوا وكلوا وأخيراً صمتوا.
ومن كانوا يتالمون من اجل العراق تعاطوا مُسكنات للوعي ومنهم من نسي ومنهم من تناسى!
اننا نرقب في صمت ولا مبالاة بلداً كان وطن الماء ثم اصبح يتصحر وكان حاضرة العلم والثقافة ثم بدأ التجهيل يفترش منجزاته.
أمن اجل هذا احتل العراق، وهل هذه هي الديمقراطية التي وعد بها الجنرال ومهدت الطريق اليها الدبابات؟
حتى من كانوا يحاولون اقناع انفسهم بتقديم مواقف رمزية للعراق الجريح انصرفوا عنه، رغم انه كان الثور الابيض الذي تحول الى أمثولة في تاريخنا المعاصر، لكن القطيع لم يعتبر بالدرس وها هو يكرره على نحو يمزج المأساة بالملهاة!
العراق المهجور عربياً وقومياً هو الآن فريسة لمن سال لعابهم على مائه ونفطه ويابسته ونخيله ومتاحفه.. فهل ثمة من يذكره الآن؟؟
(الدستور)