كلما جاءت أيام الحج، أتذكر الحاج ابراهيم، والرجل رحل عن الحياة، غير ان حكايته، مازالت لامعة، وكأنها البارحة بكل تفاصيلها.
قبل خمسة عشر عاماً، جاء صديق من الطفيلة، ليقول لي ان هناك عجوزاً ثمانينياً، يعيش حياة سيئة جداً، في غرفة من الزينكو، والعجوز اساساً من بئر السبع، لم اهتم كثيراً، بل تجاهلت كل الحاحه في البداية، وشيطان التمنع تملكني.
عاد الصديق ليحثني مثنى وثلاث ورباع لزيارة العجوز الذي يعيش في صويلح، ويعرف صديقنا حكايته، لاعتبارات اجتماعية مختلفة.
ابراهيم، هذا هو اسمه، زرته بغتة وعلى مضض وتأفف جراء شدة الحاح صديقنا الطفيلي، واذ بحياته لايعلم بها الا الله، غرفة من الزينكو، وعشرات القطط تتكوم في ذات الغرفة، سيئة التهوية، غير النظيفة، والعجوز فقير جداً، مريض ونظره ضعيف جداً، وعيشه على بقايا طعام الناس، ويعيش وحيداً لولا ابن مريض ايضاً، وتلك المسبحة الطويلة التي بين يديه.
يومها سألت الرجل عما يريد في هذه الحياة، فلم يطلب بيتاً، ولامالا، قال لي، إنّ كل مايريده أنْ يحج قبل أنْ يموت، وإذْ عدنا الى «الدستور» وتم نشر حكايته، لم اقف ابداً عند أمنيته، إذْ كيف سيحج، ومن سيأخذه ويتكفل بمصاريفه في موسم الحج؟!.
مرت ساعات فقط على نشر حكايته، وإذْ برئيس التشريفات آنذاك فيصل الفايز، يقول لي هاتفياً، إن الملك قرأ الموضوع، والملك ينوي الحج، ونيّة حج الملك لم تكن معروفة، وهو قد تسلم الحكم منذ بضعة شهور فقط، وان الملك يحب أن يأتي العجوز ابراهيم معه، وضمن المجموعة التي سترافقه الى الحج، أما أنا فقد نلت الحج يومها، بمعية العجوز.
طلب الديوان الملكي جواز سفر «ابراهيم» وعدت الى العجوز محاولا اقناعه بكل الوسائل ان يعطيني جواز سفره لطباعة التأشيرة، شك بي وارتاب، ولم يصدق قصة الحج مع الملك، ولم آخذ جواز سفره القديم غير المجدد منذ ثلاثين عاماً، الا بعد ان اقسمت الف يمين انني لا أنوي الاحتيال عليه، ولاسرقة الجواز، سلمني اياه على مضض، والظن يرتسم في عينيه.
طرنا الى الحج، بمعية الملك، والعجوز لم يكن يصّدق انه مع الملك وفي طائرته، وقد نزل ابراهيم في قصر ملك السعودية آنذاك، وكنت اقول: أي رجل هذا خاطره كبير عند الله، يحج مع ملك، ويبيت في قصر ملك، ويأتيه الحج بأمر ربه ملك الملوك يسراً وتيسيراً؟!.
يوم وصلنا الحرم الملكي لطواف القدوم، لاانسى ابداً، انني وإذْ اسير معه، ضمن المجموعة والملك على رأسها، ان نظارتي الطبية سقطت على أرض الحرم وضاعت، فصارت كل الجموع أمامي مثل الثلج، بياضا في بياض، ولم اكنْ أميّز الوجوه عن بعد.
تمت الأقدار على رأسي بأن ضاع ذات الحاج ابراهيم وفقدته من بين يدي، بعد ان انهينا طواف القدوم وتوجهنا الى بوابة الحرم للمغادرة، وكأن فقدان النظارة إشارة تحذيرعمن سيضيع بعد قليل.
دب الهلع في قلبي خوفاً على العجوز المسكين وسط الملايين، صرت أركض من مكان إلى مكان بحثاً عن رفيقي فلم اجده، وبات كل شيء أبيض اللون حولي، ونجوم الظهر تجلت وأبرقت.
يومها ابلغوا الملك ان ضيفه اختفى، فلم يقبل الملك ان تتحرك سياراته وموكبه عند باب الحرم الا بعد ان يأتوا بالرجل، وحاول السعوديون اقناع الملك ان يتحرك موكبه لأسباب أمنية، وسيتم البحث عن العجوز، لاحقاً، فلم يقبل، بقي الملك وموكبه اكثر من خمسين دقيقة وهم ينتظرون، عند باب الحرم، حتى جاء العجوز أخيراً، برفقة رجل أمن سعودي أوصله إلى الموكب.
كنت لحظتها مازلت أبحث عنه دون نظارات، وسط الملايين، ولما يئست وعدت الى الموكب، كان وصل قبلي، وإذْ بي انا المتأخر الملوم، فيد الله تعالى التي رعت العجوز وأرسلته إلى الحج، لا تتركه ليضيع ابداً.
صديق في التشريفات الملكية، آنذآك، اقنع العجوز مازحاً انني مجرد خادم تم تعييني في مهمة رسمية لخدمته، وان عليه ان يطلب كل طلباته مني، وان لايتحّمل جميلتي بكوني كتبت عنه، والعجوز لم يخيّب ظن صديقنا، وصّدق القصة، اذ بات يطلب مني عشرات الطلبات المفهومة والغريبة معاً، خصوصاً، في يوم عرفة، اي مثل هذا اليوم.
كان يذهب عشرات المرات لتجديد الوضوء بسبب ظرفه الصحي، فيطلب مني حمل حذائه عند باب الحمام، ويدخل بحذاء آخر مخصص للدخول، ويحثني على حمل الحذاء وحراسته جيداً حتى لاتتم سرقته، فأحمل الحذاء صابراً محتسباً.
على غير طباعي، تجلت السكينة في قلبي، وتبددت العصبية في تصرفاتي، والصبر الشديد طغى علي علاقتي بالعجوز المسكين.
يوم العيد خلال المناسك، صافح العجوز الملك، وشكره على الحج، والرجل كان سبباً في ارسال مئات الحجاج لاحقاً من الفقراء والمساكين على نفقة الملك كل عام، بعد ان استحسن الملك فكرة ارسال هؤلاء بعد اصطحاب الحاج ابراهيم.
عدنا الى عمان، واخذناه ليلا الى غرفة الزينكو، نزل من السيارة، ذرف دموع حرّى شعّت نوراً على لحيته البيضاء، وهو يفتح باب الزينكو، لم يترك دعوى لله الا ودعاها، ولم يعش بعدها الا لفترة قصيرة جداً، ورحل.
ربّ أشعثَ أغبرَ لو اقسم على الله لأبرّه، وكم من مسكين فقير، مقامه عند الله يفوق مقامات كثيرين؟!.
(الدستور)