أعلم أنها طفلتي، ومشاعري همّ خاص، لا ينبغي أن أشغلكم به، ولكن لي مآرب أخرى، فريحانة القلب «سما»، فجرّت في قلبي الفرحة الحقيقية بعدما فقدت شهوة الفرح منذ توفيت والدتي رحمها الله بين يدي عقب سنوات من صراعها مع السرطان، مرض نعرفه جميعا ولا ندرك سبب انتشاره، فقد اكتشفت أننا مرضى بالسياسة والإقتصاد والهمّ العام، حتى أنعم الله علينا بصديقتكم «سما» أحسست حينها أنها أخرجتني من أعماق حزن خفي، نحو شمس الحياة، وهذا ليس بوح بقدر ما هو قيمة حقيقية لأن يكون لديك طفل.
«سما» بلغت اليوم عامها الأول بعد أسبوع منَّ الله علينا بشقيقها «فيصل» ولكن كلما أتذكر سيرة حياتي أكتشف كم كنت مغرورا ولا مبال بقيمة الحياة وما فيها، ذلك أن في الأيام الأولى من عمر سما، أحسست فجأة بالآمان مع هذه الطفلة الضعيفة الجميلة وكنت من قبل أظن أن الأب والأم هما مصدر الآمان والطمأنينة لأطفالهم، فسما لم تمنحني الآمان وحسب، بل كانت إشراقا غير مسبوق في حياة العائلة العجوز.
أكرّم الله والدنا خالد، الشيخ الطاعن أحسن الله خاتمته، بالعمر ليرى أحفاده ذوو السنة والأسبوع وهو ابن التسعين عاما، قضاها ما بين صحراء حياة قاحلة وربيع عمر مزهّر، وخريف الشيخوخة التي لا يفهمه سوى من يكابد وحدته، فأنا أجلس أتفكر ما بين ابنتي ذات العام الأول وما بين والدي، فأتشتت بين ماض عريق لم يقدره أحد، ومستقبل لا يحسب حسابه أحد.
أكتب هذا لأنني أرى والدي هو الدولة تماما، وأرى كيف آل أمره بكل تلك الهيبة والطَول والحوَل والكرم في زمن الشحّ، والعلم في زمن الجهالة، والرجولة في زمن الطفولة، والفروسية في زمن النكوص، كيف آل الى ركن صغير من أركان البيت، لا يملك سوى الذكريات، وأسماء الرجال من الرعيل الأول، متأسفا على رحيلهم، مؤمنا بأن مصيره بين يدي ربه، ولا أحد من الجيل الجديد يعرف قيمته الحقيقية، ولم يبق من يستذكر صولاته وجولاته من أجلهم.
فيما أرى «سما» أنها الشعب والمستقبل، ذلك الطفل الذي لا ندرك أسراره، ولم نغص في أعماقه بعد، بل استشرفنا شيئا من قمته التي أطل بها من خلف غيوم الحاضر الملبدة بالخوف والحسابات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المعقّدة والظروف السيئة التي يمر بها حاضرنا، بعد أن تخلى عنّا القريب قبل البعيد، وساومنا الشقيق قبل الصديق، ومات فيها الأوفياء ونافسنا فيها الأشقياء وكشط على سجل تاريخنا الشريف قلم غير نظيف تعلم التشكيك بكل جهد بذله الأوفياء من أبناء شعبنا خدمة لأمته.
كنت من قبل أكتب عصارة فكري وتجربتي واستشرافي لمآلات المستقبل، خشية على أطفال وطني وعائلاتهم، لم أكن متزوجا ولم أحس بوخز الأبوّة وحاجة الطفل لأبيه، واليوم أدركت كم كنت محقاً في خشيتي، فلا مستقبل لشعب لا يفكر الآباء بالعمل ليكون أجمل لأبنائهم، مستقبل أقل ظلما وأقل خوفا من ديون الموازنة، وأقل بشاعة من تسيب المسؤولين وكراهية المواطنين لمفاهيم الدولة، مستقبل يحفظ كرامة الأبناء، ويحترم شيخوخة الآباء، ليس فيه مكان للخوف من الشارع، أو فاتورة العلاج والتعليم، مستقبل معيارة العدل بين الجميع.
ليس لأجل سما أو شقيقها فيصل أكتب، بل لهما أكتب، علّهما يقرآن هذا عندما يشبان عن الطوق، ولست أدري أفوق التراب أسير حينئذ أم تحت التراب أسير، فيعلمان أن هذا الوطن ما كان ليكون لو لم يضح أجدادنا وآباؤنا الأردنيون الأوائل ليكون وطنا مستقراً في زمن مضطرب، فيعملان بإخلاص لرفعة ومنعة هذا الوطن وشعبه، فيقدمان البذل قبل الطلب، والواجب قبل الحقوق، ويكونان آداة بناء لا معول هدم، حفظهما الله وأطفال وطني جميعا
وكل عام وأنتم بخير.