لعل ما يميّز الدولة الأردنية، أنها منذ أن وُلدت، وهي في مواجهة مستمرة مع حُزَمٍ من التحديات الصّادِمَةْ، كان أولها ظروف النشأة، حيث عمل جلالة الملك المؤسس على بناء دولة في منطقة مملوءة من الداخل بالتناقضات القاهرة، وفي المحيط، مسوّرة بقوى استعمارية ذاهبة بكل اقتدار وعزم نحو تثبيت أقدام مصالحها الذاتية، ديدنُها إبقاءُ المنطقة تحت سلطانها، توظّفها لخدمة أغراضها وأهدافها.
وما أن تولّى جلالة الملك طلال سدّة الحكم حتى شرع في تمكين الدولة دستورياً وقانونياً وتشريعياً، مع ما رافق ذلك من تصويب للكثير من علاقاتها العربية والإقليمية، فأدخل إصلاحات حسبها بعض الناس، أنذاك، أنها مستحيلة التحقق.
بعدها تسلّم العرش جلالة الملك الحسين بن طلال، الذي واجه موجات، تفوق المعقول، من الاضطراب الأمني والعسكري، داخلياً وخارجياً، الأمر الذي اضطره إلى الدخول في معارك كان الانتصار فيها يحتاج إلى كل أنواع الصبر والعزيمة والقدرة على التحمّل، وكمّا هائلاً من حُسْن الإدارة وعِظم الدراية. واستطاع الحسين أن يستكمل الكثير من المتطلبات، وأنْ يحقق العديد من الاحتياجات التي تعجز عن تلبيتها إمكانات الدول الكبيرة بكل طاقاتها. ومع ذلك فقد استطاع جلالته أن يضع الدولة على مسار الحداثة والحضارة والتقدم.
وفي نهاية القرن العشرين، شاءت الأقدار أن ينتقل الحسين إلى جوار ربه، مسلّماً الراية إلى جلالة الملك عبد الله الثاني، الذي أحسّ، منذ البداية، بعظم المسؤولية، خاصة وأن الأوضاع الداخلية والعربية والإقليمية والدولية كانت قد وصلت إلى مرحلة من التعقيد المملوءة بتحديات قاهرة، رافقتها صعوبات اقتصادية وأمنية خطيرة، هددت الكثير من الكيانات العربية والمجاورة.
و لقد كان من أكبر هذه التحديات، تلك الداخليّة منها، التي تمثّلت في ذلك التراخي الذي شاب العديد من مؤسسات الدولة الرسمية، التي بدت في جوانب متناثرة، عاجزة أو متكاسلة، الأمر الذي جعل المواطن يشعر أنه يسكن مع الملك في خندق مقابل لخندق سلطة إدارية مشوبة بالضعف ومظاهر الشد العكسي، الحال الذي غالباً ما دفع جلالته إلى أن يشكو علانية من هذا الخلل الذي وصفه بأنه غير معقول وغير مقبول، ورفضه كليّة، ووجد معه أنه مضطر الى أن ينزل بنفسه إلى المستويات الجزئية في الدولة، والتعاطي مع القضايا اليومية للناس، وذلك عندما شعر أن هناك تقاعساً بيّناً يحتاج منه، في كل مرّة، إلى تدخله الشخصي ومعالجة الأزمات بصورة مباشرة. وعليه فقد رحنا، كمواطنين، نشكو همومنا إليه شخصياً، لأننا رأينا فيه المُنْقذ الوحيد الذي يستطيع أن يداوي جراحاتنا.
دعا جلالته إلى إصلاحات سياسية ودستورية فتحت المجالات الواسعة أمام أفراد السلطة الرسمية كي يقوموا بواجباتهم، وأعطاهم كل الصلاحيات المطلوبة، إلا أننا رأينا أن المسيرة ذاهبة من عجز إلى عجز ومن تقصير إلى تقصير، وإلا فهل هي من مهام جلالة الملك أن يذهب إلى مرابع الناس وباديتهم وحاضرتهم يتلمس مطالبهم؟ وأن يزور حضانة أطفال ليرى مدى البؤس الذي يعيشونه؟ وهل من واجبه، وهو سيّد البلاد، أن يُمضي من وقته الثمين الساعات الطوال يتنقل من موقع إلى آخر ليتفقد أحوال المواطنين؟.
وثالثة الأثافي ما شهدناه مؤخراً من حالة الانهيار في دار السلطة التشريعية، التي هي شريكة أساسية في إدارة الدولة، بحيث أصبحنا موضع تَنَدُّر المجتمعات المتحضرة وغير المتحضرة، بعد أن أصبحنا نرتجف عندما تلتئم أية جلسة نواب، ورحنا نضع أيدينا على قلوبنا خوفاً ورعباً مما سيحدث.
ورابعتها تفشّي عدم الثقة بين الحكومات وبين الناس، الأمر الذي أثار غضب المواطن من أي قرار تتخذه السلطة التنفيذية سواء كان صائباً أم خائباً.
وخامستها الشكوى المتراكمة من الارتباك الأمني والتراخي القضائي، بحيث كثرت السرقات، وأزمات المرور، وأصيب التّقاضي بالخدر، ولم نستطع الى يومنا هذا أن نجْتث الفساد من أراضينا.
أمور تركتنا حيرى أمام ما يجري، وجعلتنا نتساءل متى سنتمكّن من التغلب على هذه التحديات التي يبدو أننا أعطيناها فرصاً مثالية لتزيد من التعمق والقوة والاقتدار والسيطرة والتغوّل والقهر والتدمير واثارة الرعب وتمكين السلبيات.
(الرأي)