يبدأ ولع الأردنيين بالمناصب من وظيفة حارس يقدمها الأردني على أي مهنة حرة في القطاع الخاص قد تدر عليه أضعاف الراتب، وينتهي بمنصب الوزير الذي يستنفر حوله مئات الأردنيين حالما ترحل حكومة، ويبدأ مشروع تشكيل أخرى؛ رجال أعمال، ورؤساء جامعات وأكاديميون، وألوية متقاعدون، وأطباء كبار، ومهنيون.. كلهم يرنون بجد إلى المنصب الثمين، ويوسطون من أجله كل من يعرفون.
وما بين المنصبين تشرئب الأعناق نحو كل شاغر يصدف، ويبدأ سباق الواسطات من أجله؛ مجلس الأعيان، مجالس الأمناء، مجالس الإدارات، ولجان مؤقتة أو دائمة.
وحين تم تعيين اللجان المؤقتة ورؤسائها لإدارة البلديات إلى حين إجراء الانتخابات، أذكر أنني اتصلت بوزير البلديات وحدثته عن قريبي، مدير الأشغال في إحدى المحافظات. فطمأنني بأنه قد تم تعيينه مديرا للبلدية. وكان هذا اتصالي الأول والوحيد معه بهذا الشأن.
فقلت له إنني أعرف، لكنني أتوسط عندك لإعفائه من هذه المسؤولية. إلا أنه لم يأخذني على محمل الجد. وعندما ألححت عليه جادا، أطلق ضحكة مدوية، وقال: هذه جديدة فعلا؛ أنا أتلقى مئات الاتصالات لتعيين رؤساء وأعضاء مجالس بلدية من زملائك ومن كل صوب، وأنت تتصل لإعفاء قريبك.
وأنا كنت تعجبت بالفعل من طلب قريبي؛ فهو كان سيحصل على راتبه الحكومي إلى جانب راتب المسؤولية التي كُلف بها. لكن كان رده عليّ أنّ في البلدية أكثر من أربعين شخصا حمولة زائدة، يأتون نهاية الشهر لقبض الراتب فقط، وهو لا يستطيع قبول ذلك، وسيصطدم معهم، وقد يطلب "ترويحهم"، ومنهم زعران معروفون، ولن يغامر بنفسه ولا يريد إطلاقا هذا العمل.
وقد صادفني غير مرة أن يطلب أكثر من شخص التوسط لنفس المنصب على رأس إحدى الدوائر، كل منهم يقدم نفسه، بالطبع، بوصفه الأجدر والأحق، وأنه يطلب التوسط لضمان هذا الحق، كونه يخشى أنه من دون ذلك قد يذهب المنصب من دون وجه لصاحب واسطة.
ويمكن أن يقول لك معلومات لديه عن هؤلاء. وفي الغالب، أتصل للتوثق من أن الأمور ستجري بالطريقة الصحيحة، ووفق الآلية المعلنة لتصفية المرشحين للوصول إلى الأكفأ والأجدر بعيدا عن المحسوبيات. لكن لو حدث ذلك، وتم الاختيار بالطريقة الصحيحة، فمن يقنع البقية بذلك؟! وعلى الأقل، فإن كل واحد من الخاسرين سيفضل الادعاء بأن الواسطة هي التي جلبت غيره، على الاعتراف بأنه أقل جدارة ممن تم اختياره.
هل كان الأمر عندنا هكذا دائما؟ أشك أن الطموح للمنصب الوزاري كان يشمل هذا العدد الهائل من الناس. وربما أن كثرة التدوير لهذا المنصب، ووصول كثيرين من دون ميزات جليّة وسياق واضح ومفهوم، قد نزلا به كثيرا؛ ليشعر المزيد من الناس أنهم ليسوا أقل استحقاقا من غيرهم لهذا المنصب. وكذلك حال أي مناصب أخرى.
الحقيقة أن الميزات والمنافع الكثيرة للمناصب التي ولّدتها المؤسسات المستقلة فتحت شهية المزيد من الناس.
وهناك اعتقاد عام بأن المنصب مكافأة لمن يحصل عليه، وليس إسنادا لعمل يجب أن يضطلع به شخص ذو صلة. ونموذج سلبي واحد يأكل عشرات النماذج الإيجابية الصحيحة، وكل حالة ترضية تضع خلفها عدة حالات استندت إلى الأسس الصحيحة، ولم تتدخل فيها يد الواسطة والمحسوبية.
واقع الحال أن الثقافة والسلوك في التعامل مع المنصب العام يتراجعان، فهل من سبيل لعكس الاتجاه، أم نستسلم ونقول: لا يُصلح العطار ما أفسد الدهر؟
(الغد)