للمدن غمامها وغبارها أيضاً. فليس كل غمام غماما، ولا كل غبار غبارا. ثمة مدن لا يغسلها المطر. فالغبار فيها استحال منذ زمن بعيد إلى حساء يومي، تلوكه النفوس على مضض.في مدينة ما، الفرح فيها موجع. تلك المدينة، رذاذ مطرها مؤرق. أرقٌ يُقطّر نعاسه من آخر الندى، أو البرد. فأحد ساهري تلك المدينة، يعتقد ان الأفكار تشبه الأعشاب. وأنّ على المرء حصادها عند اليباس.
في مدينة أخرى، يحتفلون بانقشاع المطر. فسأم الشتاء يحيل البشر الى عيون محدّقة ببلاهة في قطرات المطر. بعض اليائسين في المدينة، او الحالمين، قرروا الاحتفال بالموت، عند انقطاع المطر.
لنفوس المدن عاداتها. ولأرواحها طباعها. وحده الثلج يوحّد بين المدن. بياض يحيل المدن الى كتل بيضاء. نتوءات من الدرن الأبيض، الذي لا يصلح لأن يورق. ثم يسود الصمت. فتغرق المدن في خفتها نحو صحارى مسحورة. وتصير المدن مرايا من سراب صالحة للنفي من ذاكرة البشر.
قف في بياض الثلج وحدّق. ترى الواضح في القادم. لا شيء يشبهه سواه. شحنة من الرضى العارم تجتاحك فجأة. رضى ما يلبث ان يتحول الى حالة حبّ تأخذك مباشرة نحو آخر، أي آخر. اتبعها ولا تتردد.
هذا رقاد شتائي طويل، في شتاء لم يبدأ بعد. تحسس أناك الكريهة، واغسلها بالثلج والبوح سبعاً.. وغادر.
لكَ أن تصلي قبل انغماس الروح المطلق في البوح والتركيز والتلاشي.
بعد مرور نصف حياة، يدرك المرء حكمة الصفح والنسيان. حكمة يعيدها الثلج الى الوجدان كأنها مناخ موسمي. في هذا المناخ تفتك ببعض الناس الذكريات. وبضربة شمس واحدة، تلوح في المدى حقول الحياة بكل ألوانها. وعلى أول الحقول القريبة تتعرى شجرة الناس الحزينة.
حتى شمس اليوم القادم، لم يحدث ان فعل الثلج شيئاً في نفوس أهل مدينة الغبار الأولى.. فنفوس أهلها عاجزة عن رؤية ما يعليها، وهي عاجزة أيضاً عن رؤية ما يخفضها.. حتى ولو غسلها الثلج سبعاً. فالرذاذ الذي يسقط على نوافذها أكثر حرارة من صقيع زجاجها..(!؟).
FAFIEH@YAHOO.COM