بمناسبة توزيع جلالة الملك لجوائز التميز للأداء الحكومي والشفافية, فإنني ارتأيت أن أتناول هذا الموضوع لأهميته وأرى بداية أنه يتطلب للوصول لأداء حكومي متميز إجراء مراجعة شاملة ومهنية لمهام وواجبات الوزارات والمؤسسات الحكومية لقياس أدائها وتقييمه لمعرفة فيما إذا كانت الوزارة أو المؤسسة قامت وتقوم بمهامها وواجباتها أم لا؟ وفي حال التوصل إلى أن أي منهما اخفق بذلك, فإنه يتعين تشخيص ذلك من قبل أشخاص مشهود لهم بالكفاءة والنزاهة لمعرفة أسباب هذه الاختلالات والتشوهات وكيفية معالجتها بوصفات واقعية وممكنة وقابلة للتطبيق على ضوء الإمكانيات المتاحة دون أن يحول ذلك من ملاحقة المتسببين تأديبياً.
لا خلاف أو اختلاف أن جهازنا الإداري بالدولة يعاني من أمراض وظيفية مزمنة ولم يتم اتخاذ أية إجراءات وقائية أو علاجية جدية للحد من انتشارها أولاً أو لمحاصرتها ومعالجتها من جهة ثانية, وإن ما تم من إجراءات حكومية هي عبارة عن أقوال وخطط وبرامج بقيت محفوظة في الأدراج لأسباب عديدة ولا بدَّ من القول من أن فاعلية وقدرة جهاز الدولة على تقديم الخدمات يتوقف على مدى كفاءة الموظف العام ونزاهته, حيث أنه عامل الدولة يرى الناس الدولة من خلاله فهو عقلها المفكر وقلبها النابض ويدها التي تعمل وعينها التي لا تنام وأن الوظيفة العامة ليست شكلاً من أشكال المعونة الاجتماعية ولا تنتهي بانتهاء علاقة الموظف بالدولة وإن الموظف بالدولة وهو بمثابة القلب في جسم الدولة فإذا صلح صلحت الدولة وإذا وهن وهنت الدولة وضعفت وإن هيبة الدولة وكرامتها هي من هيبة موظفيها لأن الإدارة اطمئنان قبل أن تكون إداة لإشباع حاجات المواطنين.
إن تشخيص الأمراض الوظيفية التي نهشت جسم الإدارة العامة يحتاج لمعالجتها واستئصالها إلى إرادة فاعلة تكون هدفها وغايتها إزالة التشوهات والسلبيات بالأداء الحكومي والتعامل مع ذلك بمهنية وحزم وهذا لا يتم إلا من خلال النهوض بالوظيفة العامة والموظف العام قولاً وفعلاً, ومما ينبني على ذلك يتعين اختيار الموظفين الأكفياء وإسناد وظائف لهم, سواء اكانت قيادية او غيرها يكونوا قادرين على النهوض بمهامها بكفاءة واقتدار وأن يتم إجراء مراجعة شاملة للجهاز الوظيفي بحيث يتم الاحتفاظ بالموظفين المؤهلين للاستمرار بعملهم وكلاً وفق اختصاصه والتعامل مع الآخرين بعدالة ونزاهة بعيداً عن المحسوبية والأمرض الاجتماعية التي يعاني منها مجتمعنا ومنها الواسطة والمحسوبية للوصول إلى إدارة رشيقة وكفؤة.
إن تراجع الأداء الوظيفي يعود لأسباب عديدة من بينها قرارات التعيين لبعض الموظفين وللقيادات الإدارية والتي ولدت مشوهة وبالإضافة لذلك فإن تراخي وتقاعس بعض الوزراء ومدراء المؤسسات في التعامل مع الموظف بحزم وبعدالة هو الذي أوصلنا إلى جهاز إداري عليل وكسيح, وأضيف أن مراقبة أداء الموظف وتقييمه يتطلب أموراً عديدة من بينها تطبيق قاعدة الثواب والعقاب عليه, بحيث يتم تحفيز الموظف المجد مادياً ومعنوياً ومحاسبة الموظف المقصر وهذا يتطلب تفعيل النظام التأديبي على الموظفين مهما كانت درجاتهم الوظيفية.
وفي هذا المقام لا يفوتني إلا أن أشير إلى أن نظام الخدمة المدنية الحالي لم يتضمن أي نص يجيز ملاحقة موظفي الدرجة العليا تأديبياً وهذا يشكل عيباً كبيراً به, حيث أن النظام الذي سبقه كان يتضمن ذلك, إذ يتعين أن يكون القائد الإداري قدوة لمرؤوسيه وأن تطبق عليه قاعدة الثواب والعقاب وإن معظم التشريعات الوظيفية في معظم الدول تلاحق جميع موظفيها تأديبياً مهما كانت درجاتهم الوظيفية.
إن البعض يعتقد أن منظومة السلوك الوظيفي والذي تم إصدارها ويعزف الكثيرون على أوتارها ستحسن من الأداء الحكومي ومع التقدير لهذا الرأي, فإنني أختلف معه وأرى أن الأخلاق والسلوك لا تعلم ولا تدرس وإنما تنطلق من البيت والأسرة فهما عماد المجتمع, كما أن الراتب وإن كان ضرورياً وأساسياً لمعيشة الموظف, فإنه لا يؤدي إلى تحسين الأداء الحكومي وترشيقه ما لم تسبقه وترافقه حزمة من التشريعات تطبق بشفافية ونزاهة وحيادية وعدالة ومن بينها مراجعة أسس التعيين بالوظائف العامة والترقية وتفعيل السلطات التأديبية على الجميع وإعطاء الموظفين ضمانات قانونية وقضائية كافية للذود والدفاع عن حقوقهم الوظيفية بشقيها المعنوي والمادي.
وأخيراً إن ترشيق وتنشيط الإدارة للوصول بها إلى إدارة فاعلة ومقنعة لا يتم ذلك من خلال الجوائز التي تمنح للمؤسسات والموظفين, وإنما يتم من خلال مراجعة نظام الخدمة المدنية والتشريعات الوظيفية الأخرى بحيث تكون منصفة للجميع ويقوم على تفعيلها وتطبيقها قادة يطمئن الجميع لهم لنزاهتهم وكفاءتهم وتكون الغاية والهدف منه النهوض بالوظيفة العامة والقائمين عليها بما ينعكس إيجاباً على أداء الدولة لإشباع حاجات المواطنين بيسر وسهولة مع الأخذ في الاعتبار أن صلاح الإدارة من صلاح الموظف, فإذا صلح الموظف صلحت الإدارة بأنواعها واختصاصاتها المختلفة وأن العيب دائماً ليس بالتشريعات بل بالقائمين عليها, حيث أن العبرة ليست دائماً بالنصوص وإنما بالنفوس وللحديث بقية.