في بداية التسعينيات، كان الدكتور خالد الكركي محاضرا في الجامعة الأردنية, ويدرسنا مادة (الأدب الحديث) وما زلت أتذكر كيف هي إغفاءة العين والتلذذ الذي يسري في روحه حين يقرأ من قصائد نزار القباني :- لا ضباء الحمى رددن سلامي .
والخلاخيل ما لهن رنين
هل مرايا دمشق تعرف وجهي
من جديد أم غيرتني السنين؟
وكنت أرفع يدي طالبا من استاذ الأدب الحديث أن أكمل قراءة القصيدة، كان الشعر يغويني ولفظة (الخلاخيل ) لم تكن كلمة عابرة في النص الشعري،بل كانت صورة (لخشخشات) خلخال في قدم دمشقية، ذوبتني وذابت... وكنت أرفع صوتي في القراءة وأحاول أن أقلد الدكتور خالد....صدقوني أن دمشق في القصيدة لم تكن وقتها مجرد إسم فقط... أو محض شوق لشاعر طال غيابه عنها, بل كانت بنت (تكسدر) في سوق الحميدية وخلخالها يستفز الشعر النابت على اليد... ونبض القلب...ويستفز في روحي الكرك، وكأن الكرك كانت على ضفاف (بردى) أو أن دمشق مرت ذات يوم من جانب (عين سارة)...
خالد ترك (الخلاخيل) في قصائد نزار، وأنا تركت ذاك التلذذ المشروع في الحب الذي لم أجده إلا على شواطئ بحر الرمل في قصائد نزار...وهو غاب في السياسة والمواقع وأنا، مشيت في رحلة عمر لم أعرف من خفاياها للان سوى الخسارة التي تتلوها خسارة.
يا خالد...
ضيعنا دمشق والخلاخيل ضاعت،وهل تعرف يا رفيق الحرف والبلاغة والأسئلة أني ذات يوم عملت (3) أشهر في مخابز القوات المسلحة في الزرقاء حين كنت طالبا، كيف أجمع مبلغا قدره (200) دينار من أجل ذاك المقطع في قصيدة نزار، كنت وقتها فتى مثل عود اللوز نديا أخضر...وذبت من وصف نزار لدمشق، وأردت زيارتها..وذهبت دون إذن من قلبي،وطفت به في سوق الحميدية وفي (السبع بحرات) وشاهدت سيدة هناك ترتدي خلخالا وكأنه صنع في زمن الدولة الأموية...وحين شاهدتها تذكرت القصيدة وأكتشفت أمرا خطيرا جد جدا..يا خالد الكركي، وهو أن الخلاخيل هي الأخرى تصدر صوتا يشبه بحر الرمل....(فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن)...كيف أقامت النساء في دمشق وقع الخطى بتناغم هائل مع وزن القصيدة؟..وجعلن من خشخشة (الخلاخيل) تفعيلة ومن ضرب القدم...شطرا شعريا.
هل تذكر ياخالد الكركي حين قرأت لنا المقطع التالي :-
هاهي الشام بعد فرقة دهر
أنهر سبعة....وحور عين
النوافير في البيوت كلام
والعناقيد سكر مطحون
......
اه يا شام كيف اشرح مابي
وأنا فيك دائما مسكون
سامحيني إن لم أكاشفك بالعشق
فأحلى ما في الهوى التضمين.
هل تذكر يا خالد الكركي حين قرأنا ذاك المقطع، وفضحني وقتها الجنوب وكأن الذين ولدوا هناك تعلموا من صحرائه، وفقره، وتعبه..أن يسكروا من رحيق الشعر وأن يذوبوا تماما..في اللحن حين يكون دمشقيا صافيا.
أكتب إليك لأنك علمتني في لحظة من العمر، كيف أختطف القصيدة لسريري وأنام على صدرها..وعلمتني كيف تكون الخلاخيل الدمشقية، لمن يعرف الغرام...جزءا من وزن القصيدة أو تكون خشخشاتها لحنا عذبا جميلا أنبل وأرفع من خطابات وبيانات من تورطوا في دم الشعب السوري.
يا خالد الكركي..هناك كتائب كثيرة تقاتل في سوريا بعضها باسم الدين يقاتل وبعضها باسم القبيلة وبعضها باسم الحرية وبعضها باسم الطائفة...أنا أريد أن نؤسس كتيبة جديدة كي ندافع عن دمشق..ولنسميها كتيبة (الخلاخيل)..برئاسة فهد الريماوي..وجنودها أنا وأنت وسالم علي ذياب....دمشق تحتاج منا أن نعيد لها فجر القصيدة، وأن تعود (الخلاخيل) لشوارعها تعزف وزنا ولحنا وخشخشات...وأن يكون شعار الكتيبة شطرا من قصيدة لنزار :-
يا دمشق التي تفشّى شذاها
تحت جلدي.. كأنه الزيزفونُ
سامحيني إذا اضطربت فإني
لا مقفّىً حبي.. ولا موزونُ
وازرعيني تحت الضفائر مشطاً
فأُريكِ الغرام كيفَ يكونُ
يا خالد الكركي...هل تدري أنني أبكي كل يوم حين اشاهد الأخبار وأرى دمشق فيها...
هل تدري لماذا؟...لأنهم يغتالون (الخلاخيل)....أي حرية تلك التي تغتال (الخلاخيل)؟
(الرأي)