لا أعلم إن بقي هناك من ضابط صف أو جندي في الجيش الأردني ممن شهدوا أو شاركوا في حرب تشرين التي أخذت أسماءً عدة حسب رؤية كل طرف من أطراف الحرب ، فهي تشرين في سوريا وحرب العبور في مصر والاسرائيليون يسمونها حرب «الغفران» حسب ديانتهم ، ولكنني أعلم أن كل مجند أو مجاهد من الشعب الأردني والعربي يعلم تماما أنه قاتل بصدق ونية خالصة وضحى بما يستطيع في تلك المعركة ، وما قبلها من معارك مع العدو الذي يمثله جيش الاحتلال الإسرائيلي ، وأعلم أن أولئك الكوكبة يضيرهم ما يسمعوه بين الحين والآخر من تشكيك بتضحياتهم وتسفيه لتاريخهم العسكري من طريق الغمز من قناة السياسة الأردنية .
الأردن الذي شارك في حرب تشرين على الجبهة السورية غير مسؤول عن تقهقر القيادة العربية آنذاك، وقاتل جيشه قبلها في معارك 1967 ومن قبلهم قاتل أبناء الجيش والمجاهدين وأبناء العشائر من الأردنيين والعرب على أرض فلسطين في حرب 1948 واستبسلوا ، وهم أيضا غير مسؤولين عما آلت إليه نتائج الحرب ، ولم يلتفتوا الى الضرب في ظهورهم والإتهامات الموجهة لهم في كل مناسبة من جيل لم يعرف حمل السلاح أو حملوه ليتقاتلوا ، بينما شكلت معركة الكرامة علامة فارقة في الصراع العربي الإسرائيلي ، حينما استطاع الجيش الأردني و أشقائهم نخبة مقاتلي الثورة الفلسطينية تحطيم الصورة النمطية عن « الجيش الذي لا يقهر «،وأعادوا الثقة للروح العربية التي خالجها شبح القوة الإسرائيلية .
ما يدعو للأسى أكثر أن نتلقف كل ما يصدر عن الصحافة الإسرائيلية بكل ثقة وكأن وثائقهم جميعها هي نسخة من الألواح التي نزلت على النبي موسى عليه السلام ، وكأن تاريخهم لا يثبت أنهم زوروا « وثائق الله «،وحرفوها منذ بدء خليقتهم ، واستمروا في ذلك ضمن نهج زرع التشكيك بين صفوف خصومهم ، فهم ليسوا بحاجة الى الحرب النفسية بمعناها الحربي ، بل بقتل الروح المعنوية لدى جيل شبابنا الذي هو عماد الجيوش والقيادات ، فمن يشك في تاريخ والديه سيبقى يصارع عقدة ذنب لا يدري أهو وقع أم لا ، وسيشكل عقبة في حياته قد تقضي على طموحاته وآماله .
لقد قرأنا قبل أيام عن وثائق اسرائيلية تتحدث عن اتفاقات عقدها الأردن قبيل تلك الحرب ، ولكن السؤال البديهي : هل يعقل أن يكون هناك اتفاق أردني مع الجانب الاسرائيلي أو الأمريكي لعدم الخوض في حرب ستقع عما قريب ، ثم تنام القيادة العسكرية الاسرائيلية ملء جفونها ، ويحتفل العسكر وعائلاتهم هناك بعيدهم ؟!! ثم كيف لجيش استشهد فيه جنود وضباط معروفون ، ويتهم بأنه لم يذهب للقتال .. رحم الله خالد هجهوج المجالي ورفاقه و الذي قاد اللواء أربعين في الجولان ثم لم يكن مسؤولا عن تغيير خطة المعركة التي نفذتها القيادة السورية والإنسحاب من القنيطرة ومحيطها وإخلائها للاسرائيليين .
في المقابل لننظر الى نتائج المرحلة التالية للمعركة، لقد أسست تلك الحرب لمرحلة الراحة العسكرية لإسرائيل ، فالقيادة المصرية ذهبت الى خطة سلام مباشر مع اسرائيل ، ودخلالسادات القدس المحتلة ضيفا ليتفق على»صلح كامب ديفيد» لتوقيع « سلام الشجعان «، أما القيادة السورية فحركت قواتها الى لبنان واحتلته فعليا دون إعلان ، وصمتت على اجنياح لبنان من قبل القوات الاسرائيلية ، ولم يحارب أحد اسرائيل ، ولم يحرر القدس أحد ، ولم يحقن أحد دماء شعبه ، ولم ينتقل أحد الى الدولة الديمقراطية العظمى ، ولم يتزحزح القادة إلا من قبل «عزرائيل « ، أو ثورة شعوبهم ضدهم .
لذلك يخطر على بال الإنسان أن هذا الأردن الذي عجّ برجالاته السياسييين والعسكريين العمالقة قدره أن يبقى على صورة « القاتل القتيل « ، الجميع يريد منه أن يقاتل على كل الجبهات باسم العروبة والدين و المصير المشترك ، ولا يريد أحد أن يمد له يد ، لا بل يصنعون من أراجيف أعدائهم وثائق لإدانة أرواح أبطالنا، وعلينا أن نفرق بين نقد نهج الحكومات وبين النهج الوطني التاريخي ، فتلك إضاعة يرتكبها جهلة السياسة والمغرضون .
(الرأي)