يجادل مسؤولون وسياسيون مقرّبون من مراكز القرار بأنّ الأردن عبر المرحلة الخطرة، وتجاوز المنعطف التاريخي الذي مرّت به المنطقة، من دون بحور من الدماء أو حدوث فوضى تذهب بأمن الناس وحياتهم الطبيعية، وتفتح البلاد على مصراعيها لرياح اللعبة الإقليمية! ربما تكون هذه القناعة من زاوية إقليمية، خارجية، صحيحة تماماً. إذ يشعر الأردنيون، بالضرورة، بالارتياح والاطمئنان إلى أنّهم لم يمرّوا بما مرّ به الأشقاء في الدول العربية الأخرى من كوارث وويلات، ولا يتمنّى المواطن الأردني أن يعيش تلك اللحظات العصيبة.
لكن هذا لا يعني -في المقابل- أنّنا بالفعل نسير في الاتجاه الصحيح! لماذا؟ لأنّ ما قمنا به من إصلاحات دستورية وسياسية لم يؤدِّ إلى إحداث فروقٍ حقيقية جوهرية في الحياة السياسية؛ تردم الفجوة المتنامية بين مؤسسات الدولة والشارع، وتعيد الشرعية للعبة السياسية، وتطوّر المسار الديمقراطي بما يضمن إدماج الشرائح الاجتماعية المختلفة ومشاركتها الواسعة في اختيار ممثليها في مجلس النواب وفي البلديات، بما يسمح بإيجاد آليات فعّالة لبناء حالة التوافق الوطني، والتأسيس للمرحلة المقبلة على أرضية ثابتة، تقلّص من حجم الفجوة السياسية، وتحدّ من آثار الأزمة الاقتصادية.
ما نفتقده اليوم، وهو ما يواجه الحكومة والمعارضة على السواء، يتمثل في عدم وجود توافق على شرعية العملية السياسية، ما ينجم عنه ازدياد شرخ الثقة في السياسات الرسمية، و"التنمُّر" على القانون والدولة، لتراجع قيمة دولة القانون والمواطنة، والاختلال في المركز الأخلاقي للدولة، والشعور بانعدام العدالة بشقيها المدني والاجتماعي. وهي الأزمة التي انعكست بقوة على مختلف مرافق الحياة؛ التعليمية، والخدماتية، والمجتمعية.
إذا كانت الرياح الإقليمية مرّت من جوارنا ولم تصبنا نتائجها الوخيمة -الحمد لله، بالطبع- فإنّ هذا لا يعني أنْ نرقص ونفرح، ونشعر بالانتصار، خاصة عندما نرى نجاح الثورات المضادة في مصر، والفوضى في سورية وليبيا، والقلق في تونس، وكأنّنا تجاوزنا مرحلة الخطر. فالركون إلى مثل هذه القناعات خطر، ويؤدّي إلى نتائج وخيمة.
والأخطر من ذلك أن نستثمر فيها لأجل المضي في سياسات اقتصادية قاسية، في ظل أزمة سياسية عميقة، على قاعدة خشية الناس مما يحدث حولنا!ربما الفائدة الحقيقية لما يقع في الجوار من أحداث مقلقة ومرعبة، هي أنّه يتيح لنا فرصة التفكير العميق طويل المدى حول الأزمتين السياسية والاقتصادية المقيمتين في ديارنا، وكيفية الخروج منهما بأكبر قدر من التوافق والحوار الوطني.
كما يتيح لنا تجنّب العمل تحت ضغط الاستقطاب والصراع الداخلي، لبناء تصوّر للوضع الراهن، والأخطاء التي وقع فيها الجميع، والطريق إلى تجديد العقد الاجتماعي الوطني، والانتقال إلى مرحلة جديدة نحو الأمام والمستقبل، خارج سياق المقارنة التي يقيمها المسؤولون مع دول الجوار، وكأنّهم يخيّرون المواطنين بين السيئ والأسوأ، بوصفها مقارنة عظيمة رائعة!
من أين نبدأ؟ من استبعاد منطق الانتصار والهزيمة؛ العداء والخصومة في الداخل. فلسنا في "لعبة صفرية"، فيها طرف رابح وآخر خاسر؛ بل نحن على طاولة واحدة، لمواجهة أزمة بنيوية يمرّ بها الوطن والمجتمع. وعلينا إنقاذ التعليم والإدارة العامة، والتأسيس للحاكمية الرشيدة، ومواجهة العنف الاجتماعي، وتطوير البنية التحتية، وجذب الاستثمار، ورد الاعتبار لدولة القانون والمواطنة، وترسيخ الشفافية فيما يتعلق بالمال العام، والتخطيط لمسارنا الاقتصادي القادم، وإدماج المجتمع في اللعبة السياسية، ومحاربة التطرف الفكري والديني، وتطوير البحث العلمي، والمضي في مسار الطاقة المتجددة.
فإمّا أن نشترك في تصميم استمارة هذه الأسئلة والتحديات والإجابة عنها، وإما أن نستمر في خوض الامتحان الغلط، والإجابات الخاطئة.
(الغد)