في هذه المرحلة العسيرة التي تمر بها الأمة حيث تزداد المعاناة و القهر ، و تنهب الثروات ، و يضيع الحق ، و يعتدى على الأرض ، و تختلط الأمور ، و يمتزج الخطأ بالصواب ، و العدل بالظلم ، و السيادة بالعدوان ، في هذه المرحلة يقف المواطن العربي متسائلا : الى أين يسير الحكُام بهذه الأمة ؟ و ما هو المصير الذي ينتظر مستقبلها ؟ و هل الهيمنة الأجنبية قدر ؟
و هل يقبل الشعب العربي الاستمرار في قبول هذا الوضع السائد الذي تغلق فيه أبواب الأمل بفعل هيمنة خارجية أو تسلط داخلي ؟ .
في هذه المرحلة الراهنة من تاريخنا ، التي ارتضى بها العديدون أن يكونوا عوناً لأعدائهم على أمتهم ، يقبلون بالهيمنة الأجنبية و يتنازلون عن الأرض ، يصبح من حق كل عربي أن يتساءل متى تنتهي المحنة ؟
إن أكثر ما يؤلم و يقلق و يخيف هو ما تتعرض الأمة له من العدوان الخارجي الذي يعمل على سلب إرادتها ، و إبعادها عن ممارسة حقها في اختيار طريق تطورها ، و ما تتعرض له من العدوان من داخلها عبر التخلف و التسلط و مصادرة الإرادة ، مما يسهل الطريق أمام الهيمنة و المطامع الأجنبية .
إن الأمة التي وحدتها رسالة التوحيد ، حملت مشاعل الحرية و العدل و المساواة ، و نشرت القيم ، و عممت العلم و المعرفة ، و حررت الإنسان ، تجد نفسها اليوم مجزأة مفككة تكافح ظلم الأجنبي الطامع في ثرواتها و مواردها و ظلم بعض حكامها الذين فقدوا الرؤية و الإحساس بالإنتماء .
لقد كانت الوحدة العربية طموحاً عظيماً لازم عقول و قلوب الذين قاوموا الظلم ، إدراكا منهم لحقيقة ثابتة و هي أن الأمة المجزأة لا يمكن أن تكون حرة و سيدة ، وأن الأمة الموحدة وحدها قادرة على النهوض و التقدم و حماية الأرض و الهوية و المصير .
إن أخطر ما ترسخ بعد نشوء الدول القطرية هو الإزدواجية في السياسات و الممارسات و المواقف ؛ فمن جهة دعوة الى الوحدة العربية و خطاب سياسي وحدوي حتى عند عتاة الإنعزاليين ، و من جهة أخرى ممارسة انفصالية و انعزالية حتى عند أشد دعاة الوحدة العربية.
و قد ساعدت هذه الحالة في إضعاف الأمة ، و ساهمت بتسهيل عبور الهيمنة الخارجية ، و على فتح الطريق أمام الحركة الصهيونية لإقامة دولة الكيان الصهيوني ، الذي وضع العرب أمام تحدي المشروع الصهيوني الاستيطاني ، الذي عجزت آلة الحكم العربية عن إدراك أخطاره ، لأنها غرقت في تفاصيل المصالح القطرية ، و مصالح الشرائح الحاكمة .
و قد أدت حالة التفكك القومي الى تهديد الوحدة الوطنية ، المتمثل اليوم في خطر التركيز الصهيوني و الأمريكي الغربي على إثارة النعرات و العصبيات العرقية و الطائفية و المذهبية التي تجد لها متسعاً في الواقع القائم .
و لعل أشدً ما تتعرض له الأمة اليوم هو هذا التدخل المباشر السافر و العدوان القائم فعلا على المنطقة الذي يسعى الى هدم دول ، و تفككها و تجزئتها ، و ما لحشود البوارج و سفن العدوان الأمريكي التي تتجمع في مياه البحار إلاً عنوانا صارخا للحالة الراهنة المخزية التي وصلت إليها الأمة .
إن الإصرار الأمريكي الغربي المعزز بالدعم المادي من دول النفط ، إلا أكبر دليل على أن استهداف الأمة أصبح حقيقة واقعة . و ما السلاح الكيماوي إلا إحدى الذرائع الواهية التي يستند إليها هذا العدوان المبيًت منذ عقود .
ولولا حالة التوازن الدولي القائمة في مجلس الأمن ، و صمود المحور الذي يقف في وجه هذا العدوان ، و الخوف من تداعياته على مصالح الغرب ، و ربيبته " اسرائيل " ، لسارت أمريكا بمخططها الى أخر مدى .
لقد لجأت أمريكا للعودة الى الأمم المتحدة كمخرج للمأزق الذي وضعت نفسها به ، و أعلنت أن الحل العسكري ليس ممكنا ، و لا بد من اللجوء الى الحل السياسي ، و الذهاب الى جنيف 2 لإنهاء الحالة الراهنة في المنطقة .
و السؤال الذي يفرض نفسه بعد هذه الضجة الني أحدثها قرع طبول الحرب الأمريكية : هل ما زال هنالك أمل بحل سياسي ؟ أم إن ما يجري هو مجرد حركة دبلوماسية لذر الرماد بالعيون؟ و أن العدوان لا محالة قائم ولو تأجل بعض الوقت ؟
و هل تستطيع أمريكا تجميع صفوف المعارضات الداخلية و الخارجية و تقودها الى طاولة الحوار في جنيف 2 ، و هل هنالك مفاجآت غير الكيماوي يمكن أن تظهر و تعيق الذهاب الى جنيف 2 ، كما حدث في المراحل السابقة ؟
أن الواقع القائم على الأرض ، و الدبلوماسية الروسية التي أجبرت أمريكا بالعودة الى مجلس الأمن لا تشجع الطرف الأخر ، ما دامت حالة التوازن الأرضي و الدبلوماسي ليست لصالحه.
و للوقوف على حقيقة السياسة الأمريكية في العالم من المفيد العودة الى ما كتبه المؤلف الأمريكي " نعوم تشومسكي " في كتابه : " الهيمنة و البقاء " . الذي أشار فيه الى أن الولايات المتحدة الأمريكية : " تسعى منذ أكثر من نصف قرن وراء استراتيجية امبريالية كبرى هدفها اخضاع العالم لسيطرتها مهما علت المخاطر . و تدفع نحو الحدود النهائية للسيطرة الامبريالية نحو الاختيار بين امتيازات القوة و إمكانية العيش على الأرض . و تسعى أمريكا الى تسيُد العالم ، و تحقيق السيطرة التامة مهما بلغت التكاليف ."
إن ما تقوم به أمريكا اليوم هو الاستمرار بهذه السياسة العدوانية التي ستغير كل شيء على الأرض ، و لكن هل ستنجح و يبقى العالم تحت هيمنتها ؟ أم أن هناك توازنا دوليا بدأ يلوح في الأفق ، و لم تعد أمريكا وحدها سيدة العالم ؟ .