جمال عبد الناصر يوقف نزيف الدم العربي في آخر يوم في حياته
د. فيصل الغويين
27-09-2013 11:27 PM
بعد معركة الكرامة في 21 آذار 1968 وتحقيق الجيش العربي الأردني والمقاومة الفلسطينية أول نصر على القوات الاسرائيلية، تدفق على الاردن الكثير من المنظمات، والتي نقلت معها جميع التناقضات الموجودة في العالم العربي، ونشأت ازدواجية في السلطة، حتى قامت دولة داخل الدولة، وكثرت التجاوزات والتعديات على المواطنين والمرافق العامة، واتخذت هذه المنظمات من عمان ومدن أخرى قواعد لها، وصعب على الاردن احتواء العمل الفدائي بالتنسيق بينه وبين الحكومة؛ لتفادي الفوضى والنعرات الاقليمية، وزاد في تلك الصعوبة كثرة المنظمات وارتباط الكثير منها بأنظمة عربية ،كالعراق وسوريا وليبيا والجزائر، والتزام بعضها بما يتفق عليه وعدم التزام اطراف اخرى. وبدأت بعض المنظمات تخرج عن مهماتها النضالية الحقيقية.
انفجرت الأزمة في الاردن في 16 ايلول بعد أن شكلت حكومة عسكرية برئاسة محمد داود، وأعلنت الأحكام العرفية، وهنا بدأ التحرك العربي الذي قاده جمال عبد الناصر، والذي كان وقت اندلاع الأزمة في مرسى مطروح للاستشفاء، عندما قدم إليه معمر القذافي، حيث قطع الرئيس إجازته القصيرة ليعود إلى القاهرة لمواجهة الموقف العصيب.
والذي كان يؤرقه أن تسفك دماء عربية، وأن تتحول الجبهة الشرقية من جبهة حرب مع العدو، إلى جبهة حرب أهلية بين العرب يتفرج عليها العدو. وحتى يضع حداً لنزيف الدم الأخوي الأردني الفلسطيني دعا إلى عقد مؤتمر قمة عربي استثنائي.
ومن بين أول من وصلوا لحضور اجتماع القمة الطارئ الرئيس الليبي معمر القذافي، الذي قرر وقف مساعدات ليبيا الى الاردن بموجب اتفاق الخرطوم، كما عارض حضور الملك حسين القمة، إلا أن عبد الناصر أصر على ضرورة حضور الملك حسين إلى القاهرة، وقال للقذافي صراحة إنه ما لم يحضر الحسين فلن يكون هناك مؤتمر.
عقدت الدول العربية مؤتمر قمة غير عادي في الفترة من 21 إلى 27 ايلول عام 1970، وشاركت فيه كل من السعودية والكويت ومصر وليبيا والسودان والأردن وتونس ولبنان واليمن الشمالي، وغابت عنه سوريا والعراق والجزائر واليمن الديمقراطي والمغرب.
وانبثق عن المؤتمر وفد يمثل القمة برئاسة الرئيس السوداني جعفر النميري، وعضوية الباهي الأدغم رئيس الوزراء التونسي، والشيخ سعد العبدالله الصباح وزير الدفاع الكويتي، والفريق أول محمد أحمد صادق رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية، وسافر الوفد إلى عمان، وتمت صياغة بيان نص على وقف اطلاق النار من الجانبين، إلا أن هذا الاتفاق لم يصمد إلا يوماً واحداً، بعد أن تحالفت عناصر متعددة الاتجاهات فلسطينياً وعربياً لعرقلة الجهود التي يبذلها عبد الناصر من أجل وقف تدهور الموقف.
واعتبر الاجتماع مستمراً لمواجهة الازمة في صورة "مجموعة عمل"، وعاد الوفد ثانية الى عمان " فقد كنا في سباق مع الموت" هكذا قال عبد الناصر حينما طلب منه اطباؤه أن يخفف قليلا من الجهد المضني الذي كان يبذله.
وصل ياسر عرفات الى القاهرة في 25 ايلول متخفيا في زي كويتي بعد ان خرج من مخبئه السري في عمان برفقة وزير الحربية المصري. وفي حضور امير الكويت اتصل عبد الناصر بالملك حسين في عمان قائلا له :" يا اخ حسين نحن نكن لشجاعتك اعظم احترام، ان اخي صباح السالم الذي يجلس الان الى جواري يشاركني رجائي في ان تحضر في اقرب فرصة ممكنة"
ويصل الملك حسين الى القاهرة في 27 ايلول من اجل ان يعرض القضية على الزعماء العرب، وكان يوما حافلا لعب فيه عبد الناصر اخر ادواره التاريخية، حيث تم التوصل الى عقد اتفاق القاهرة الذي تضمن انهاء كل العمليات العسكرية من الجانبين، وسحب القوات الاردنية الى قواعدها الطبيعية، مع سحب جميع القوات الفدائية من عمان والمدن الاخرى، على ان تنقل الى اماكن تلائم العمل الفدائي، وتضمن الاتفاق ان تكون هذه القرارات ملزمة لكلا الطرفين ، على ان تتخذ الدول العربية اجراءات موحدة وجماعية ضد أي طرف يخل باي بند من بنوده او يعرقل تنفيذه.
وقد شهد على توقيع الاتفاقية كل من: الرئيس جمال عبد الناصر، والملك حسين، وياسر عرفات، والملك فيصل، والرئيس اللبناني سليمان فرنجية، والعقيد معمر القذافي، واللواء جعفر النميري، والباهي الادغم، واحمد الشامي عضو المجلس الجمهوري اليمني.
وحينما تم انجاز الاتفاق قال عبد الناصر:" احمد الله ان راوا الرشد" ثم بدأ بوداع الملوك والرؤساء العرب الذين شهدوا الاجتماع التاريخي، وكان لا بد ان يقوم بالواجب حتى النهاية، وكان وداع امير الكويت صباح السالم اخر واجب رسمي قام به، حيث عاد من مطار القاهرة الى منزله عندما داهمته نوبة قلبية، لكي يسلم الروح، وعمره لم يتجاوز الثانية والخمسين.
هكذا كان رحيل جمال عبد الناصر في الثامن والعشرين من أيلول 1970 مفاجئاً وقاسياً، ومؤذناً بنهاية مرحلة تاريخية قادها رجل تاريخي بجميع المقاييس، فقدت مصر بعده دورها القيادي عربياً، وأصبحت القاهرة ملعباً لمحميات الخليج، حتى وصل تقزيم دور مصر أن تقودها محمية قطر. ما أحوجنا في هذه المرحلة التاريخية الحرجة إلى نهوض جديد لمصر يعيد لها دورها القيادي لإعادة بناء مشروع التحرر الوطني والإستقلال القومي، في ظل واقع الاستسلام العربي الرسمي للإرادة الأمريكية، والائتمار بمشيئتها، والمشاركة في حروبها الظالمة ضد بني قومها كما في العراق وسوريا وليبيا، وفتح الاراضي لتدفق جيوشها الغازية وقواعدها العسكرية، والأجواء لمرور طائراتها وصواريخها إلى أهدافها العربية، أما القرار السياسي فما عاد قراراً عربياً، وإنما أصبح يصاغ في واشنطن وباريس ولندن، ويملى على النخب الحاكمة، وأحياناً ما يقوم سفراء الدول الغربية بأمر اتخاذه وأملائه .إنه الفرق بين زمن المشروع التاريخي وزمن الإفلاس التاريخي.