في المراحل الأولى من ثورات "الربيع العربي" (نهاية تموز (يوليو) 2011؛ أي قبل عامين)، ألقى المثقف الأردني عمر الرزاز، محاضرة مهمة في مكتبة الجامعة الأردنية (طوّرها لاحقاً في دراسة صدرت عن المركز العربي للدراسات في قطر)، لم تحظ باهتمام حقيقي من قبل الأوساط الثقافية والسياسية العربية والأردنية.
تقوم رؤية الرزاز على أنّ نهضة الشعوب العربية ودخولها في الدورة التاريخية، وتخلصها من الاستبداد، لن تتأتّى عبر إقامة انتخابات حرة، ووجود حكومات برلمانية؛ فالأهم من ذلك هو التخلص من "النظام الرَّيْعي" الذي يقوم على اقتصاد تلعب الدولة، أو بعض مؤسساتها، دوراً كبيراً في الحياة الاقتصادية، ويقوم على "علاقة زبائنية" بين الفرد والدولة، وذلك نحو بناء نظام اقتصادي يقوم على الإنتاج، وتحرير الفرد العربي من "عقد الإذعان" الحالي مع الدولة، نتيجة الاختلال في المعادلة الاقتصادية.
يحاجج الرزاز بأنّ النظام الاقتصادي المنتج هو الذي يتكفّل بإعادة هيكلة العلاقة بين الفرد والدولة بصورة بنيوية، ما يضع المداميك لقيم المواطنة وثقافتها في العلاقة بين هذين الطرفين، ويخلق عقداً اجتماعياً جديداً في العالم العربي.
"الجملة المفتاحية" الإبداعية التي يضعها الرزاز في رؤيته، تتمثّل في أنّ المشكلة لم تكن بالرؤساء والقيادات السياسية، بل بالتحالف الوثيق بين السلطة المطلقة (التي تعني غياب الشفافية والمساءلة والحاكمية) وبين الأنظمة الرعوية. وهو التحالف الذي مثّل "أُكسير الحياة" للأنظمة الرسمية العربية، وأطال في عمرها.
حينذاك، كان الرزّاز يحذّر –بلغة واضحة ومباشرة- من أنّ ما تغيّر في مصر هو "رأس النظام"، بينما بقيت الأدوات والآليات والديناميكيات وشبكة المصالح فاعلة. وكان يقول بأنّ "الاكتفاء بتغيير رأس النظام لن يؤدي إلاّ إلى تغيير الوجوه إذا لم تتغير المعادلة الاقتصادية القائمة".
كانت تلك إشارات مبكّرة مهمة إلى خطورة الثورة المضادة من القوى الفاعلة في الأنظمة القائمة، وإلى الجزء الأكبر من النظام الغاطس تحت سطح الماء. وهو ما ثبت فعلاً في مصر؛ إذ تغيّر مبارك ومعه القيادات العسكرية، وتمّ استبدال الطبقة العليا من النخبة السياسية، إلاّ أنّ المؤسسات العميقة والعريضة القائمة على شبكة مصالح اقتصادية وسياسية مترابطة، عملت لاحقاً على إجهاض الثورة، بالتعاون بالطبع مع أجندة إقليمية رأت في صعود مشاعر التوق إلى الحرية والتحرر خطراً على شرعيتها، فعملت مع القوى المضادة على إجهاضها في "دول المنشأ"، أي في مهد "الربيع العربي".
ذلك لا يعني أنّ الرزاز يرى تأخير الإصلاح السياسي إلى ما بعد الإصلاح الاقتصادي؛ فهو يرفض ذلك بوضوح، ويردّ علمياً على أصحاب هذه النظريات. بل هو يرى أنّ الإصلاح الاقتصادي ليس ممكناً بدون إصلاح سياسي، لكنه كان يسعى إلى بناء إدراك لدى النخب العربية بضرورة التزاوج بين الإصلاحين السياسي والاقتصادي، وإلى وضع خريطة طريق تأخذ بعين الاعتبار هذه التحديات المهمة، التي إن تمّ تجاهلها، فهي كفيلة بتوجيه لكمة قاسية للحظة "الربيع العربي"، وهو ما حدث بالفعل.
من المفيد جداً، للنخب والمثقفين، العودة إلى رؤية الرزاز، وما حملته من مفاهيم وقضايا مهمة ورئيسة مرتبطة بكيفية التفكير في المستقبل، وشروط العبور إلى عصر الحرية بصورة أكثر ثباتاً واستقراراً وعمقاً.
m.aburumman@alghad.jo
الغد