عندما يراعي الفرد مشاعر الآخرين بتعامله وتصرفاته وسلوكه، أثناء السير على الطرقات، أو عند الاصطفاف أمام نوافذ المعاملات، أو في مواقع الازدحام والتجمعات، أو في طريقة الخطاب وتبادل الحديث، أو عند تعامل الموظف مع الجمهور، إنما يكون ذلك ثمرة لما يحصله الإنسان من مستويات التربية والتعلم، ويكون مؤشراً لمنسوب ما تحصل لديه من تهذيب وخلق،ومؤشرا على مستوى التحضر والتمدن الحقيقي.
يعد الخلق أرقى مستويات الكمال الإنساني، الذي يتوصل إليه الشخص من خلال مسيرته التعليميّة طويلة المدى، التي تبدأ منذ تفتح عينيه على الحياة، وتستمر في البيت والمدرسة والشارع وعبر مدرسة الحياة المتشعبة، التي تكسب الإنسان القدرة على التعامل مع الآخر، ومهارة الإحساس بمشاعر الآخرين، التي يعبَر عنها بالاحترام والتقدير والحلم، وحسن الإنصات وجمال التواضع، وهذا ما جاء الدين لإتمامه وإكماله كما جاء في الحديث النبوي: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»، ويصدق ذلك قول الله في كتابه الكريم: ((وأنك لعلى خلق عظيم))، وهذا يقرر قاعدة إنسانية كبيرة ترسخ معيار المدح والذم والتفاضل بين الناس، القائم على الخلق.
يتم التعرف على أخلاق المرء من خلال تعامله مع الناس، فإذا كانت تصرفاته تقوم على مراعاة مشاعر الآخرين، من خلال الموازنة وحسن التقدير القائم على وضع نفسه مكان الطرف الآخر، أي: عامل الناس كما تحب أن يعاملوك، إذ لو تم الالتزام بهذه القاعدة من جميع الأطراف لكانت النتيجة الاقتراب من التحضر الاجتماعي المطلوب بسهولة، ولكن المصيبة تكمن بتفضيل المرء لنفسه على من حوله! والجرأة بمنح نفسه حقوقاً لا يستحقها! فيتقدم على من سبقه في «الطابور» ،ويعمد إلى إلحاق الأذى بالمارة من خلال تجاوز القانون وعدم الالتزام بالتعليمات، ولا يلتزم بقواعد السير، ولا يراعي أحوال الناس وحقوقهم!
إن الذين يعمدون إلى إغلاق الشارع العام، بنصب صيوان للاحتفال بالزواج، أو بمناسبة النجاح في الثانوية العامة، دون مراعاة حق الناس بالمرور، إنما يمثل خرقاً فاضحاً للأخلاق، واعتداءً صارخاً على الحق العام، وكذلك من يعمدون إلى إغلاق كل المسارب في الشارع العام أثناء تسيير مواكب الأعراس، وتعمّد السير ببطء، وحجز كمية كبيرة من السيارات، إنما يمثل نوعاً من البلادة المرفوضة، وتجاهلا لمشاعر الناس، وعدوانا لئيما على الحق العام، بالإضافة إلى ما يسببه هذا التصرف من ايذاء للمرضى أو تأخير ذوي الحاجات من الوصول إلى أهدافهم بشكل متعمد، وبطريقة مرفوضة لا يقبله عقل ولا منطق ولا ذوق .
يلجأ بعضهم الى التعبير عن فرحة واحتفاله بمناسبة ما، عن طريق استخدام مكبرات الصوت التي توصل أصوات المسجلات الى عشرات الكيلومترات! بغناء مزعج وكلمات تصك الأذن وتؤذي المشاعر !الى ساعة متأخرة من الليل، دون احساس باحتمال وجود مرضى، أو وجود طلاب يدرسون ويستعدون للامتحانات، أو وجود بشر يتسامرون في بيوتهم !
هنالك من يقود سيارته مستغرقا بالحديث على الهاتف، ثم يرتكب أخطاء فاحشة في الالتفاف أو تغيير المسرب، أو التوقف المفاجئ الذي يؤدي الى تعريض أرواح الناس وممتلكاتهم للخطر، بكل بلادة ويقوم بمحاولة اغتيال بشعة، دون أن يكلف نفسه عناء الاعتذار عن ذلك الخطأ الفاحش! ويواصل مسيره القاتل وكأنه لم يفعل شيئاً.
والمظهر المرعب في تلك السلوكات القاتلة أنها غالباً ما تصدر عن شباب من ذوي الأعمار التي لا تتجاوز العشرينيات، ما يؤذن أننا لا نسير باتجاه صحيح، وأننا مقدمون على مزيد من المصائب الاجتماعية و مزيد من التدهور الأخلاقي!!
يزداد منسوب التعليم لدينا، وتقل نسبة الأمية عندنا، وتحتل الأردن رقماً متقدماً في نسبة التعليم العالمي، والشهادات العليا، وعدد الجامعات، ومع ذلك تلحظ زيادة في حوادث السير، وزيادة في حوادث العنف، وزيادة في منسوب حوادث الرعب المجتمعي، وتزداد ألوان الفساد وتتعدد أشكاله، ويقل التسامح، ويقل منسوب التعامل الحضاري، ما يؤذن بتصاعد منحنى الخراب وليس العكس.
هذا يقتضي من القائمين على المؤسسات التربوية والتعليمية والجامعات، والمناهج وأرباب الثقافة والأدب؛ أن يسارعوا الى وقفة تقويمية عميقة على مسار المجتمع ومستقبل الوطن.
نحن لا نضيف جديداً الى ما ترسخ في ديننا وثقافتنا وحضارتنا وتراثنا حول قيمة الخلق في المجتمعات والأمم، التي لخصها الشاعر العربي بقوله:
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
وما ينبغي أن نقف عليه جميعاً أن الأخلاق السيئة الي يمارسها بعضهم تعد عدواناً على المجتمع، واعتداء صارخاً على الحق العام، فهي ليست من باب الحريّة الشخصية، وليست تصرفات فردية ينحصر أثرها في نطاق الذات، ما يستوجب استنفاراً عاماً لوضع حد لهذا العدوان الآثم على الأمة ومستقبلها.
الدستور