*المحامي الدكتور جهاد الجرّاح
يعتبر وجود هيئة نيابية منتخبة ركنا اساسيا للنظام النيابي , وبموجب ذلك يقوم الشعب بانتخاب النواب الذين يكونون الهيئة النيابية , وهذه بدورها تتولى التعبير عن ارادة الامة وممارسة السلطة باسمها .
وفي مهد نشوء فكرة النيابة , كان الناخبون الانجليز يختارون من كل مقاطعة او مدينة نائبا اي وكيلا عنهم , وكان هؤلاء الناخبون يرسمون لهذا النائب حدود مهمته ووكالته ويدفعوا له مرتبه ونفقاته ويحاسبوه عن اعماله عند انتهاء وكالته , ولهم ان يعزلوه قبل انتهاء وكالته اذا خرج عن تعليماتهم , ولذا كانت العلاقة التي تحكم الطرفين هي نظرية الوكالة المدنية , وهي ذاتها التي تحكم علاقات الافراد بعضهم ببعض .
ولا شك ان لما سبق سلبية كبيرة تجعل ارادة النائب مرهونة بارادة ناخبيه , وهذا يقود لتغليب مصلحتهم الخاصة حتى لو تعارضت مع المصلحة العامة , ولذا بذلت جهود ونشات نظريات لتحقيق استقلال النائب عن ناخبيه بحيث قادت الى اعتبار النائب ممثلا للامة باسرها , وهكذا ساد واستقرمبدأ علو المصلحة العامة على المصالح الفردية للشعب , ولذا نصت الاعلانات العالمية والدساتير وقوانين الانتخاب على ان النائب يمثل الامة باسرها , وان الاخيرة هي منبع السلطة , وبهذا جاء الدستور الاردني لينص في الفقرة الاولى من المادة 24 على ان : الأمة مصدر السلطات .
وبهذا يبدو جليا الفرق بين سيادة الشعب وسيادة الأمة وبحيث يصبح البرلمان في مجموعه وليس النائب بذاته هو الوكيل عن الامة بمجموعها , فالناخب يختار النائب ثم يستقل الاخير ويندمج ضمن الهيئة النيابية التي تباشر سلطات الحكم باسم الامة , وتصبح العلاقة القانونية بين النائب والمجلس الذي ينتمي اليه .
ولعل كل ماسبق يجيبنا على التساؤل الكبير والمفصلي : هل يحق للبرلمان ان يفصل احد الاعضاء الذين انتخبهم الشعب ؟
وبالتاسيس على ماتقدم نستطيع الجزم - وفي معرض حادثة الكلاشن طيبة الذكر في مجلس النواب – بالقول ان مجلس النواب يستطيع من الناحية الفقهية والدستورية وباعتباره ممثلا لارادة الامة , ان يفصل احد اعضائه استنادا الى العلاقة القانونية التي تربط النائب بالبرلمان , ويسند ماسبق النص الصريح للمادة 90 من الدستور الاردني , والتي اوجبت لذلك صدور قرار من مجلس النواب وباكثرية ثلثي الاعضاء الذين يتالف منهم المجلس
( اي بما لايقل عن 100 نائب ) , ومما يجدر ذكره ان هذه العقوبة عقوبة تاديبية , اناط المشرع الدستوري سلطة ايقاعها بمجلس النواب وترك تقدير موجباتها لذلك المجلس ودون ان يحدد افعالا بعينها تستلزم هذه العقوبة , ذلك ان قاعدة لا جريمة ولا عقوبة الا بنص , لا يمكن تطبيقها هنا , فهذه القاعدة من قواعد القانون الجزائي الذي يعاقب على الجرائم المحددة بنص القانون , والتي تستوجب عقوبة جزائية يصدر بها حكم من السلطة القضائية المختصة , اما حالتنا هذه , فالعقوبة هنا تاديبية وليست جزائية ويوقعها مجلس النواب وليس السلطة القضائية , وللمجلس هنا كامل الصلاحية التقديرية في ذلك دون الاستناد الى افعال محددة على سبيل الحصر .
وقد تناولت بعض الاقلام , ان هناك ارادة ملكية سامية تم اصدارها لمجلس النواب لاجل فصل النائب الشريف , وللتوضيح , نستطيع القول هنا ان الدورة الحالية لمجلس النواب هي دورة استثنائية , وبموجب الفقرة 3 من المادة 82 من الدستور فانه " لا يجوز لمجلس الامة ان يبحث في اية دورة استثنائية الا في الامور المعينة بالارادة الملكية التي انعقدت تلك الدورة بمقتضاها " , وطالما ان قضية العنف النيابي واطلاق النار لم تكن مدرجة ضمن الارادة الملكية التي دعي مجلس الامة على اساسها , فان الدستور يقضي بوجوب اصدار ارادة ملكية لاضافة مناقشة هذا الامر , اما مسالة فصل النائب من عدمه فيستقل بها مجلس النواب سيّد نفسه .
وينبني على مسالة فصل النائب وجوب اجراء انتخابات تكميلية طبقا لنص المادة 88 من الدستور , وهذه الانتخابات التكميلية هي الحالة الرابعة المنتظرة خلال اقل من 8 اشهر من تاريخ ولادة مجلس النواب .
اما بالنسبة لتجميد عضوية النائب الدميسي لمدة سنة , فقد ثار التساؤل لدى اهل القانون حول مدى دستورية هذه العقوبة التاديبية ؟
وفي الاجابة على ذلك نستطيع القول انه لم يرد نص صريح في الدستور الاردني يفيد بجواز تجميد عضوية النائب , ولذا ذهب البعض للاجتهاد بعدم دستورية ذلك , بينما ذهب فريق اخر الى دستورية هذه العقوبة استنادا الى مبدأ " ان من يملك الاكثر يملك الاقل من باب اولى " , ولذا وطالما ان مجلس النواب يملك الاكثر وهو فصل النائب فانه يملك الاقل وهو تجميد عضويته , ولكن السؤال الذي يمكن طرحه بقوة في هذا المقام ردّا على الفريق الثاني وهو : انه اذا كان المشرع الدستوري اجاز فصل النائب فانه اوجب اجراء انتخابات تكميلية لملء المقعد الشاغر لسد النقص الحاصل , اما في حالة التجميد لمدة طالت ام قصرت , فمن الذي يملأ مقعد النائب الذي جمدت عضويته , حيث لا انتخابات تكميلية , وبهذا يصبح عدد النواب ناقصا واحدا , وبالتالي هناك فراغا دستوريا يتوجب معالجته والحالة هذه ؟
اما عن العقوبة الجزائية بحق اعضاء مجلس الامة , فابتداءا يمكن القول , ان اعضاء المجلس يتمتعون بحصانة برلمانية هدفها منع ملاحقة النائب , وذلك لكي يؤدي دوره في خدمة الامة , ولكن هذه الحصانة لها محدداتها التي بينها المشرع في حرية التكلم وابداء الراي وذلك ضمن حدود النظام الداخلي للمجلس , ولا يجوز مؤاخذة النائب عن اي تصويت او راي يبديه او خطاب يلقيه في اثناء جلسات المجلس , وكل ماسبق طبقا للمادة 87 من الدستور , وبمعنى اخر فان حرية النائب داخل المجلس , يمكن التعبير عنها بالكلام وبالكلام فقط , دون شلح الزنانير اوسحب المسدسات او فتح الجبهات بالكلاشنات , اما اذا تعدى الامر ما سبق , فتنسلخ الحصانة عن النائب ويعود سيرته الاولى , وهنا يجب التفريق فيما اذا كان المجلس في غير حالة انعقاد , ففي هذه الحالة اقتصر الدستور الامر على ابلاغ المجلس بالاجراءات المتخذة بحق النائب مشفوعة بالايضاح اللازم .
اما اذا كان المجلس في حالة انعقاد , فقد اشترط المشرع الدستوري صدور قرار من مجلس النواب بالاكثرية المطلقة ( 76 نائبا ) لجهة ملاحقة النائب , والحالة الثانية التي يجوز فيها ملاحقته هي اذا قبض عليه في حالة التلبس بجريمة جنائية , وهنا اوجب المشرع اعلام المجلس بذلك فورا .
والمقصود بحالة التلبس وفقا للفقه الجنائي هي حالة الجرم المشهود والذي عرفته المادة 28 من قانون اصول المحاكمات الجزائية بقولها :هو الجرم الذي يشاهد حال ارتكابه او عند الانتهاء من ارتكابه , وهذا ما ينطبق تماما على حالة النائب الشريف , وحتى لو كان ذلك داخل مجلس النواب , اذ ان ما قام به يعد فعلا معاقبا عليه قانونا ولا يعفي فاعله ارتكابه لذلك الفعل داخل مجلس النواب , ذلك ان مجلس النواب ما زال داخل حدود التراب الاردني - لمن يعتقد غير ذلك – والذي تبسط عليه الدولة سيادتها وهيبتها , كما ان هذا الفعل لا علاقة له باداء النائب في خدمة الامة , وهي الوظيفة الموجود اصلا بهذا المكان من اجلها , وواضح انها تخرج عن مجرد ابداء الكلام وحرية التعبير في حدود المهمة النيابية .
واخيرا نتساءل : هل المقصود بالجريمة الجنائية هو ان تشكل الجريمة المقترفة من النائب جناية بالمعنى المقصود في قانوني العقوبات واصول المحاكمات الجزائية ؟ ام ان المقصود بذلك الجريمة الجزائية , باعتبار ان كثيرا من المشتغلين بالقانون يطلقون على قانون العقوبات : القانون الجنائي ؟
وفي الاجابة على ماسبق , نستطيع القول ان النص ناطق بما فيه , ولا اجتهاد مع مورد النص , وان الشك يفسر لمصلحة المتّهم , وبالتالي يجب ان يكون الفعل المقترف يشكل جناية بالمعنى المقصود فنيا من ذلك , ولكن من جهة اخرى يمكن الاخذ ليس بحرفية النص وانما بروحه , اي ان تكون الجريمة جزائية وتتسع لتشمل الجنايات والجنح , وعلى اي حال فان الفصل في ذلك يعود لمن اولاهم الدستور الحق في ذلك .
وختاما , فانه لادخل للجريمة فيما اذا كانت جناية ام جنحة على العقوبة التاديبية بفصل النائب , ذلك انها تصدر من السلطة التشريعية , والسلطة التشريعية لها مطلق التقدير في ممارسة سلطتها , بينما العقوبة الجزائية تصدر من السلطة القضائية , كما يمكن القول انه لا تلازم بين العقوبة التاديبية والعقوبة الجزائية , فيمكن للسلطة التشريعية ان تمارس صلاحياتها بفصل النائب استقلالا عن السلطة القضائية .
" ربّ اجعل هذا البلد آمنا وارزق اهله من الثمرات "
*رئيس قسم القانون المقارن – جامعة العلوم الإسلامية العالمية
Dr.jihad2000@hotmail.com