عن الوطنية، القومية والهوية
د. محمد أبو رمان
15-09-2013 06:32 AM
- يقول الكاتب بلال فضل (في صحيفة الشروق المصرية) "أصبح معلوما من الواقع بالضرورة أن درجة تقدم الأوطان تتناسب عكسيا مع انتشار الأغاني الوطنية فيها، وفي الوقت الذي تزيط الفضائيات بأشياء تنتحل صفة الأغاني وتزيف منطق الوطنية، وتنشر الموالسة والكراهية، مرت ذكرى الفنان الجميل حسن الأسمر في صمت، جعل بعض الذين استعادوا ذكراه يكتشفون أن أغنيته "كتاب حياتي يا عين ماشفت زيه كتاب الفرح فيه سطرين والباقي كله عذاب" كانت حتى الآن أصدق أغنية وطنية"!
- المهمة الرئيسة لقيم الوطنية وحب الوطن تعزيز المشاعر الجمعية وخلق روح الوحدة من أجل الوطن والدفاع عنه وحمايته والارتقاء به نحو الأفضل؛ أمّا اليوم فتحوّلت الأغنيات الوطنية إلى نشر العصبيات والتعصب ورفض الآخر والانغلاق على الذات، ومنطق التمجيد، وبات انتشارها علامة على تراجع الذوق الفني، والإحساس الجمالي، وتعبيرا عن الإفلاس الحضاري والتنموي والتقدّمي، فبدلاً من أن تكون هذه الأغاني رافعة للاقتصاد والعمران والأوطان أصبحت مؤشّراً عكسياً تماماً.
- ربما ذلك يقودنا إلى سؤال الهوية، أيّاً كانت وجهتها؛ وطنية، قومية، طائفية، دينية، عرقية؛ إذ أصبح موضوع الهوية هو أحد أسباب الكراهية والعنف والقتل والعداء المتبادل في الوطن العربي، وهي محراب الفتنة العمياء، ما بين شيعي وسني، عربي وكردي، شمالي وجنوبي، مدني وفلاح، مسيحي ومسلم، وهو وضع طبيعي عندما يكون منظور الهوية منغلقا، مغلقا، متقوقعا على الذات، تعبيرا عن الهواجس والضعف والشك، دعاته هم المأزومون- مصابون بوساوس قهرية، يرون في التنوع والتعددية خطراً على مكاسبهم ومصالحهم، حتى وإن كانت هشّة ومحدودة.
- لا يعني ذلك بالضرورة أنّ المرء يمكن أن يتخلّص من انتماءاته أو هويته، بل أن نبني إدراكاً إيجابياً للهوية، كما يقول مؤلف كتاب "الهوية والعنف: وهم المصير الحتمي" (أمارتينا صن) "الهوية – بدايةً- يمكن أن تكون مصدراً للثراء والدفء، كما يمكن أن تكون مصدراً للعنف والترويع".
المقصود هو، إذن، أن ينسج الإنسان شعوره بالهوية (وطنية، قومية، دينية، أيديولوجية) مع معايير أخرى؛ تقديس إنسانية الإنسان وحقه في الحياة، وحقوقه المختلفة، الانفتاح على الآخرين لا العداء معهم، احترام الهويات الأخرى والاعتراف بها، ألا تكون الهوية سبباً في البغضاء والعداء والقتل، بل تكون دافعاً للتقدم والتطور والتعارف والحوار بين الناس؛ وربما لا نجد أكثر عمقاً ولا جمالاً من الآية الكريمة "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم"، ففيها تأكيد على المعاني السابقة، ورفض للعنصرية والتعصب والانغلاق.
- من أجمل ما قرأت عن تأثيرات الهوية على الشعوب وعجلة التقدم والتنمية، ما كتبه الفضل شلق عن تجربة النمور الآسيوية، إذ لم تغرق تلك المجتمعات في أسئلة الهوية بروحها العدمية الراهنة، إنما قفزت إلى الأمام مسافات طويلة؛ فحوّلت النظرة إلى الهوية (من أنا، من نحن) من "دوران حول الذات"، إلى تنافس على العطاء الموصول والتقدم، لتصبح الهوية (ماذا تفعل؟ ماذا حققت؟).
- أنهى الرفاق اليساريون والقوميون وقفتهم الاحتجاجية ضد ضرب سورية والحفاظ على وحدتها مشكورين؛ ولا أظن من حيث المبدأ أنّ هنالك إنساناً عربياً يختلف معهم في هذا الموقف الأصيل؛ لكن هذه المشاعر القومية الجارفة جفّت عندما قُتل آلاف الأطفال والنساء بالأسلحة الكيماوية والتقليدية، وهُجّر ملايين السوريين من أراضيهم، وهدمت البيوت وسوّيت الأحياء بالأرض، فلماذا لم نجد هذه المشاعر العروبية والقومية مع هؤلاء الملايين وفاضت على مجموعة صغيرة تحكم بالحديد والنار، وحكم يقوم على الإذلال والأمن والمعتقلات؟!
m.aburumman@alghad.jo
الغد