حين يغدو رثاءُ الميّتّ تجارةً و صنعة
هشام غانم
19-01-2008 02:00 AM
الرجل الدمث و الكريم و المرِح و المتسامح، المضياف القلب و النفس، و الداخل في عقده الخامس مِنْ غير تلكّؤ أو خوف، الرجل هذا، طرح بالأمس حزمةَ أسئلة كثيرة و عسيرة، و سلّطّ أسئلته هذه على مجموعة مِنَ الرجال (المضيافي القلب و النفس) كذلك. و مناسبة تلك الأسئلة كانت وفاة الفتى اليافع حكمت قدّورة، الذي قُتِلت نفسُه بغير نفس أو فساد في الأرض، قبل عدّة أيام، في حادثة سير فظيعة.و دار مدارُ أسئلة الرجل الدمث و الكريم على الفرق بين موت و موت؛ فهو (الرجل) كان قد فقد ابنه قبل بضع سنوات في حادثة سير، كذلك. فسأل، واجماً و ساهماً: علامَ كلّ هذه الضجّة و الجلبة و الإطناب حول مصرع الشاب قدّورة؟ أهو أوّل فتىً يقضي في حادثة سير؟ أروحه أكرم مِنْ أرواح المواطنين الذين يقضون يوميّاً في حوادث سير و حوادث أخرى؟ أفليس البشر، كلاً و جميعاً، متساوين أمام الموت؟ و ما بال الدولة و أجهزتها و رموزها منخرطة في التجييش و التحشيد و السعي في جلاء غموض الحادثة و الكشف عن مرتكبها؟
و الحقّ أنّ الرجل الدمث و الكريم، على رغم إلحافه في السؤال، حارَ جواباً، و لبثت أسئلته معلّقة في الفراغ، ممتنعة مِنَ الإجابة. و سوف نحاول، هنا، الإجابة عنها، و طرح أسئلة جديدة إنْ أمكن.
فبادئ ذي بدء، ينبغي القول إنّ الموت هو أقوى حقيقة في هذا الكون، و هي حقيقة مِنْ طراز صاعق، مفاجِئة أبداً، على رغم تكرّرها منذ الأزل، تأتي دائماً فاجعة و مباغِتة، كأنّها «تحدث» لأوّل مرّة. و مِنْ أجل ذلك، فالموتُ لا «يحدث» و حسب؛ بل «يَحْضُر»، (البقرة/133)، و «يلاقي»، (آل عمران/143)، و «يتوفّى»، (النساء/15)، و «يدرك»، (النساء/78)، و «يجيء»، (الأنعام/61)، و «يأتي»، (إبراهيم/17)، و «يُذاق»، (الأنبياء/35).
و لكنّ هذا كلّه، يخصّ أهل الميّت وحده، و إلى هذا الحدّ أو ذاك، يخصّ أهله و صحبه؛ غير أنّ ردود الفعل على «الحدث» إيّاه، مِنْ مقالات و تصريحات و إشارات (معظمها عامّيّ) لم تأتِ مِنْ أهل الميّت و حسب، بل جاءت مِنْ أناس لا يربطهم بالميّت رابطٌ، و فوق ذلك، جاءت ردود الفعل تلك، مجيءَ سيل تكسّرت موانعه، و أنكرتْ على المتحفظّين تحفظَّهم. فنهض كلّ ذلك قرائنَ على ازدواجيّة و عقم و نفاق لا يستعصي على الرسم و التثبيت.
و التعليل المتماسك (أو الذي نحسبه متماسكاً) للازدواجيّة و العقم و النفاق، هو أنّ الموت يدرك، يوميّاً، عشرات المواطنين، في حوادث السير و في غيرها، مِنْ غير أنْ نسمع كلمةً واحدة حول ذلك، و مِنْ غير تسيير «مسيرات» تندّد بتلك الحوادث. و ليس هذا القول انتقاصاً ممّا جرى و يجري؛ و لكنّه صرخة ضدّ التفرقة بين موت و موت، فالبشر متساوون أمام الموت كأسنان المشط (حين كانت أسنان المشط «متساوية»!). و على هذا، أو قريباً منه، يسعنا القول إنّ المبالغة و التهويل في التنديد بمصرع المرحوم قدّورة، و على هذا النحوّ الغريب و المُرائي، هما (المبالغة و التهويل) ضربٌ مِنَ الظلم و العسف لمواطنين كثُر فقدوا أحباباً و أعزّاء على قلوبهم؛ و ذاك بأنّ أسوأ أنواع الظلم هو العدالة الحمقاء.
و كائناً ما كان الامر، يبقى أنّ ما جرى و يجري، أثناء و غداة مصرع المرحوم قدّورة، يعدّ إهانةً و متاجرةً بالموت و خفره و رهبته؛ و آية ذلك، أنّ المرحوم بين يديّ ربّه الآن، فهو لن يستفيد شيئاً ممّا جرى و يجري، فهو لن يعود إلى الحياة مِنْ طريق مقالات الرثاء و مسيرات الوفاء، و إنّما المستفيد مِنْ هذا الأمر هم مَنْ يتولّون التجييش و التحشيد و الخَطابة حول موته؛ فهُم يتوسّلون بالخَطْب الجلل لتحقيق مآرب أكثرها زائف، و أقلّها محقّ. فمَن المسؤول عن طباعة صور المرحوم و عرضها على قوارع الطرق و المحالّ التجاريّة؟ و مِنْ أيّ جيوب اقْتُطِعت الأموال التي استُخدِمت في الحملة الدعاويّة التي رافقت مصرع المرحوم؟ و ما هي الجدوى مِنْ تحويل موقع الحادث إلى مزار و دعوة الناس إلى السعي فيه و الحجّ إليه و الطواف حوله؟ أليس هذا ضرباً مِنْ تحويل المكان إلى مشهد صنميّ و وثنيّ؟ أفليس كلّ هذا سقوطاً أخلاقيّاً راعباً و رياءً ظاهراً و مريعاً؟
بيد أنّ الأسوأ مِنْ كلّ ما عداه هو الافتئات على المرحوم و صبّه في قالب فولاذي مخاتل و مراوغ؛ فالمقالات التي تناولت الحدث آثرت أنْ تنسب له وقائع و أحوالاً لم تحدث و لم تقع، لدرجة أنّ الأمر وصل بالبعض إلى تزوير توقيت الحادث؛ لإضفاء شيء مِنَ الميلودراما على الحدث. و هؤلاء المزوّرون يحسبون أنّ الضحيّة لا تكتسب جدارتها كضحيّة إلّا إذا أضافوا لها الصفات الفروسيّة. و الحقّ أنّ هذا السلوك يغرف مِنْ مَعين غيبيّ و أسطوريّ عتيق، كان شائعاً عند بعض القبائل العربيّة القديمة، فهذه، حين موتِ أحد أفرادها، تنسب له صفاتٍ و «كرامات» و بطولاتٍ و وقائع غير موجودة؛ فالقَصَص البطوليّ و الملحميّ يقتضي أنْ يكون القتيل فارساً مغواراً و نبيلاً، يتسنّمّ صهوة فرسه، و يستّلّ سيفه مِنْ غمده، و يُقطّع رؤوس الأفعى المتطاولة، و يُجندل الغولة المتربصّة. وبغير ذلك، لا تستوي الضحيّة ضحيّةً.
و هذا كلّه، و غيره مثله، في الارجح، ليس حبّاً بالضحيّة، بقدر ما هو حبٌّ و نرجسيّة في مَنْ يتولّون النطق باسم الضحيّة.