يتطلب الحديث عن المواطنة والدولة، وما يتأسس بينهما من ثقة، إجالة النظر في الميراث التاريخي، وكسب الحاضر، ومفهوم المجتمع المدني، من خلال رؤية تقويمية لقوة وقلق التجربة المعاصرة، وبالأخص الحاجة الملحة لتمثيل عناصر المجتمع المختلفة، وذلك بتضمين أصول التشريعات متطلبات العلاقة التعاقدية الثلاثية، في أوجهها الرسمية والمدنية والاقتصادية الاجتماعية. إذ هي التي أشعرتنا بالحاجة إلى بحث معمق في مفهوم المواطنة، وإلى تمثيل شامل للمجتمع في مرحلة ما بعد القرن العشرين. فالكتابة من موقع المراقب تجعلني أميل لمناقشة ما إذا كانت مجتمعاتنا بحاجة إلى تعاقدات جديدة تضمن لنا فاعلية أكبر لمفهوم المواطنة، واستمرار رسوخ الثقة بين الدولة والمواطن وحتى أكون أكثر وضوحاً وصراحة؛ أقول إن العديد من المسلمات تغيرت نظرة المواطن اليها ، واصبح ينتابه الشك في طبيعة العقد الذي يربطه بالدولة، وتراخت ثقته في الدولة بمفهومها الرسمي، أو الخاص، أو المدني، وما لم تجتمع العناصر الثلاثة في تعاقد عضوي، وتواثق فكري، فلا أستطيع التحدث عن الدولة باعتبارها كياناً صحيحاً ومقبولاً لإدارة الشأن العام.
إن غياب الإحكام التام للعلاقة التعاقدية، بمستوياتها المستجدة، أي العلاقة الثلاثية، ربما يفقد الدولة ثقتها بمواطنها، وقد يؤثر على ثقة المواطن في قدرة الدولة على تفعيل الإصلاح المنشود. وعلى نحو أدق، فإن التأكيد على مفهوم المجتمع المدني، الذي أكدنا عليه في «الميثاق الاجتماعي العربي»، وصدر عن منتدى الفكر العربي في كانون الأول 2012، له أهمية قصوى عند النظر إلى مدنية الدولة، وأدوارها الاقتصادية والاجتماعية المنوطة بها. وبالإضافة إلى ذلك، فإن الحديث عن تاريخية العلاقات الناظمة لعلاقات مجتمعنا، يعني أيضاً أهمية الإسهام في النقاش الدائر حول حاضرنا بتعقيداته الراهنة، والدعوات المختلفة والمخلصة حول ضرورة تجديد المجال العام؛ من خلال التركيز على ثوابت الفكرة التاريخية، التي أسست لكيان هذا المجتمع، فضلاً عن توثيق عرى أصول الأوضاع الاجتماعية، والتي تجذرت وأمدت الفكرة بالروح ورفدتها بمقومات البقاء.
والمسألة هنا ليست محاولة مجردة لشرح مفهوم المواطنة، أو بناء الثقة، بل هي قراءة تاريخية موضوعية لفعل بناء الدولة في مرحلة النهضة العربية، التي بدأت في بواكير القرن الماضي، وما يمكن أن نستلهمه منها في فترة ما صار يُعرف بـ»الربيع العربي» في زماننا الحاضر، وعلى اعتبار أن بين النهضة العربية والربيع العربي نقاط تلاقٍ كثيرة؛ أهمها موضوعة بناء الثقة بين الدولة والمجتمع وتفعيل مفهوم المواطنة. وذلك بتجريب تناول بعض الموضوعات، أو إن شاء القارئ أن يسميها المعضلات التي تواجه الدولة الأردنية؛ تتسق مع جملة المفاهيم المطروحة من قِبل الدولة للنقاش في منابر الحوار العام، نبدأها بما بدأ به المؤسسون من تأكيد لا يقبل الجدل والاختلاف حول قانونية الدولة، وأصول العقد الاجتماعي بين الدولة والمواطن وما يمثله ذلك من ضمانات الثقة المتبادلة بين الفرد ودولته، وتفعيل مفهوم المواطنة. فالمواطن حتى يثق بدولته في تسيير شؤون حياته اليومية، لا بد أن يستشعر ضمانات تعاقده معها، وما يتعلق من ذلك بكرامته الإنسانية. وفي المقابل، وحتى تتأكد ثقة الدولة بمواطنها ولا يدفعها عدم الثقة إلى إقصائه عن المشاركة في أي مظهر من مظاهر إدارتها للشؤون الداخلية والخارجية، فإن عليه أن يستحضر واجباته الاجتماعية والوطنية، ويوفيها بتمامها.
وإذا كان القانون، كما يُعرِّفه الفقه هو مجموعة القواعد القانونية العامة والمجردة التي تصدر عن السلطة التشريعية لتطبق على الجميع على قدم المساواة، وتحقيقاً لمعنى المواطنة المتساوية، فإن المبدأ الأساسي الذي يجب على دولة القانون اتباعه عند تطبيق هذا القانون هو عدم التمييز، بحيث يخضع جميع الأفراد المحكومين لأحكامه انطلاقاً من حقيقة أنه قد صدر ليطبق على الجميع دون استثناء. لذا، فإن دولة القانون بهذه الصفة تعد دولة ديمقراطية طالما أنها تلتزم بمبدأ سيادة القانون وتستمد شرعيتها من إرادة الشعب الحرة، وتلتزم السلطات فيها بتوفير الضمانات القانونية والقضائية والإدارية اللازمة لحماية حقوق الأفراد وحرياتهم الأساسية، التي أرسى الدستور الأردني قواعدها، وأكدت جميع المواثيق الدولية، والتي صدرت عن الأمم المتحدة، وأهمها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.
لهذا، كان من أهم نتائج النهضة العربية التأسيس لمفهوم دولة القانون بمعناه العصري الذي يقوم على مجموعة من المرتكزات؛ أهمها اعتبار الدولة هي دولة المواطنين جميعاً مهما اختلفت آراؤهم أو تعددت اجتهاداتهم، والتأكيد على أن الدولة تستمد قوتها ووجودها الشرعي من خلال التطبيق الفعلي المعلن لمبادئ المساواة والعدل وتكافؤ الفرص، وأن الحكم فيها يجب أن يستند إلى إتاحة المجال الفعلي والحقيقي لكافة أفراد الشعب في المشاركة في صنع القرارات المتعلقة بشؤونهم العامة. فتتعزز بذلك الثقة المتبادلة بين الفرد ودولته، إذ تزداد ثقة الفرد في قدرة الدولة على تكريس حقوقه وحرياته الدستورية وحمايتها من أي اعتداء قد يقع عليها، في حين تنمو ثقة الدولة بالفرد وبأنه قادر على تحمل واجباته اتجاهها وذلك من خلال ممارسته المسؤولة لحقوقه، التي كفلها له الدستور، والتزامه بحدود القانون في الظروف والأزمات الاستثنائية.
والمعروف أن دولة القانون ترتكز على الالتزام بأحكام الدستور نصاً وروحاً في أعمال السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية وفي إطار تنظيم العلاقة فيما بينهم، والالتزام بمبدأ سيادة القانون في إطار الرقابة الكاملة للسلطة القضائية المستقلة، وترسيخ قيم التسامح والموضوعية، واحترام معتقدات الغير، وكفالة الحق في التعبير عن الرأي وإعلانه بحرية تامة، والنأي بالممارسات السياسية والحزبية عن الصراعات الشخصية الضيقة، وعن تجريح الأشخاص والهيئات الاعتبارية الشعبية والرسمية. كما يشترط لتفعيل مبدأ دولة القانون الحفاظ على صفتها المدنية والديمقراطية، واعتبار أي محاولة لإلغاء تلك الصفة، والمساس بها، أو تعطيلها، باطلة من أساسها، لأنها تشكل تعدياً على الدستور وانتهاكا لمبدأ التعددية ومفهومها.
في المقابل، فإن مفهوم دولة القانون يفرض على مؤسسات الدولة جميعها القيام بواجبها في التعامل مع المواطنين والهيئات العامة، وفرض القانون عليهم على أساس المساواة التامة والعدالة في تطبيقه. ويتطلب التطبيق الأمثل لذلك مراجعة التشريعات الناظمة للقوانين ذات الصلة بالعمل السياسي؛ وذلك لكي تكرس الحقوق السياسية للأفراد، وأن تعتمد أسلوب المشاركة السياسية، وتفعيل الحوار الديمقراطي في التعبير عن الرأي؛ بعيداً عن كافة أساليب الضغط وأشكال الإرهاب الفكري، الذي قد تمارسه جهة من الجهات على المواطنين.
ومن النتائج المترتبة على قيام دولة القانون بتطبيق القانون بشكل عادل ومتساوٍ، تفعيل مبدأ المشروعية كمبدأ أساسي للحاكمية الرشيدة. فهذا المبدأ يقوم على أساس احترام مؤسسات الدولة لأحكام القانون في تسييرها للشؤون اليومية وتعاطيها بشكل متساو مع الأفراد المتعاملين معها. فحتى تتمتع جميع القرارات الصادرة عن هذه المؤسسات وتصرفاتها بصفة المشروعية، فإنها يجب أن تصدر وفق أحكام القانون بشكل يضمن عدم الاعتداء على حقوق الأفراد وحرياتهم الدستورية. فالفرد سيشعر بالراحة والطمأنينة وسيسترد ثقته بالدولة وأجهزتها المختلفة عندما تبادر المؤسسات إلى القيام بالمهام الموكلة إليها دستورياً وقانونياً، والمتمثلة في إشاعة جو من الحرية والأمان والاستقرار وسيادة القانون من خلال تفعيل مبدأ المشروعية.
واليقين الراسخ لدي أن تمسك دولة القانون بمبدأ المشروعية في علاقتها مع الأفراد، يمكنها من أن تستعيد القدرة والصلاحية القانونية على أن تمارس الدور الذي نشأت من أجله، وهو فرض القانون كأداة لضمان سير المرافق العامة بانتظام واطراد، والفصل في المنازعات التي تنشأ بين الأفراد والجماعات، فيأخذ كل ذي حق حقه، وينال المعتدي جزاؤه القانوني. ويتحقق من خلال تطبيق مفهوم دولة القانون ومبدأ المشروعية، الهدف الأسمى من الحكم المتمثل في حماية النظام العام بعناصره الأربعة وهي الأمن العام، والصحة العامة، والسكينة العامة، والآداب والأخلاق العامة.
إن أهم ما يرتبط بدولة القانون ومبدأ المشروعية، الذي يجب أن يحكم علاقة الدولة بمواطنيها، هو مبدأ المواطنة، والذي يعد حجز الزاوية في النظام النيابي البرلماني الكامل، ومطلباً أساسياً لتحقيق الإصلاح السياسي المنشود، ويمكن من تعزيز الديمقراطية الحقيقية بمعناها الدستوري، الذي يقوم على أساس المشاركة الشعبية في اتخاذ القرار. فالعلاقة بين المواطنة والديمقراطية واضحة وجلية، تتمثل في أن المواطنة هي علاقة قانونية واجتماعية بين الفرد ودولته تقوم على منحه حقوقاً في مواجهة الدولة وفرض واجبات عليه لصالح الدولة والمجتمع.
فالوجه الأول للمواطنة يتمثل في ثبوت حقوق وحريات أساسية للفرد بأنواعها المختلفة؛ السياسية، والمدنية، والاقتصادية، والاجتماعية، وذلك في مواجهة دولته، كالحق في الانتخاب والترشح وتولي المناصب العليا على أساس الكفاءة والمؤهلات. أما الوجه الثاني للمواطنة، فيكمن في ثبوت واجبات والتزامات على الفرد في مواجهة دولته تتمثل في ضرورة المحافظة على الأمن والسلم الاجتماعي، والمشاركة في اتخاذ القرارات، وتحمل المسؤولية المشتركة لتجاوز الأزمات التي تواجهها. فالمواطنة تقوم على أساس الشراكة الحقيقية بين الفرد ودولته في السراء والضراء، بحيث تلتزم الدولة بضمان العدل والمساواة وتمكين الأفراد من ممارسة حقوقهم وحرياتهم الأساسية، في المقابل يقع على الأفراد واجب تحمل مسؤولياتهم الوطنية تجاه دولتهم والحرص على أمنها واستقرارها.
وهذا يقود لفهم العلاقة بين المواطنة والإصلاح السياسي، التي تكمن في وعي الفرد لحقيقة الشراكة مع دولته ودوره في إدارة شؤونها الداخلية، فينشط نحو الانخراط في الأحزاب السياسية بشكل يعزز من دورها على الصعيد السياسي، وذلك وصولاً إلى تحقيق الهدف الأسمى من الإصلاح المتمثل في تطبيق فكرة الحكومة النيابية. فالفرد هو جزء من نسيج الأمة وعنصر من العناصر المكونة لها، وبالتالي فإنه يقع على عاتقه واجب تشكيل السلطات في الدولة، وذلك تطبيقاً للنص الدستوري، الذي يقول إن الأمة مصدر السلطات. وهذا الدور الأساسي للفرد يجب أن لا يقتصر فقط على تشكيل السلطة التشريعية من خلال انتخاب مجلس النواب، بل يجب أن يمتد ليشمل مشاركته في الرقابة على أداء السلطة التنفيذية.
إن من أهم مطلوبات الإصلاح إعادة تعريف مفهوم المواطنة ودورها في تحقيق الديمقراطية والحاكمية الرشيدة في دولة القانون. فما أفرزته تجربة النهضة العربية، وما تلاها من انتفاضات وثورات، وما تمخض عنها من إصلاحات سياسية ودستورية، قد ساهمت في تغيير مفهوم المواطنة والانتقال به من المفهوم التقليدي الذي يقوم على أساس المساواة بين المواطنين في الحقوق والحريات، وعدم التمييز بينهم على أساس الدين، أو العرق، أو اللغة، إلى المفهوم الحديث الذي يمتاز بأنه أوسع وأشمل يقوم على أساس الثقة المتبادلة بين الفرد ودولته، تكرس فيه الدولة حقوق الأفراد وحرياتهم الأساسية في مقابل تقرير واجبات للفرد في مواجهتها؛ أهمها ضمان أمنها وسلمها الداخليين في كافة المراحل وخلال الأزمات والظروف الاستثنائية.
وقد ارتبطت فكرة المواطنة الفاعلة في ذهن المواطن الأردني دائماً بالإصلاح السياسي،
وبغياب نص دستوري صريح عليها. فعدم وجود النص يتعارض مع الاتجاه العام للإصلاح، الذي تتبناه الدولة ويتفاعل معه المجتمع. وهو ما يفرض على المشرع الدستوري أن يقوم بتفعيل مفهوم المواطنة. وذلك تجسيداً للرؤى الإصلاحية، التي تتكامل مع الجهود الملكية التي تستشرف الإصلاح وترسم الطريق الأمثل له، والتي كان آخرها الدعوة إلى تكريس نهج المواطنة الفاعلة في الورقة الملكية النقاشية الرابعة التي حملت عنوان «نحو تمكين ديمقراطي ومواطنة فاعلة» .