يحسب لحكومة د. عبدالله النسور احتلالها المرتبة الأولى بين كل الحكومات السابقة، مسجلة رقما قياسيا، وفي وقت قياسي، على صعيد اتخاذ قرارات رفع الأسعار، في كل مجال! فقطعت بذلك شوطا كبيرا في معالجة اختلالات الموازنة العامة الناشئة عن سياسة دعم السلع والخدمات المقدمة للمواطن.قد يقول قائل إن الحكومة مضطرة لاتخاذ هذه القرارات. لكن ما يَغفل عنه البعض أن المواطن يحتاج إلى فرصة عمل ودخل أعلى، يعينانه على امتصاص كل هذه الضربات، وهو ما لم تفعله الحكومة بكل مؤسساتها.حتى الآن، طوت الحكومة ملف المحروقات، فلم يبقَ سوى أسطوانة الغاز. وبدأت بقطاع الكهرباء لمعالجة مديونية شركة الكهرباء الوطنية، فاتخذت قرارا بإلغاء الدعم خلال الفترة 2013-2017، بغض النظر عن شخص رئيس الحكومة وفريقه.وهي ما إن انتهت من الكهرباء، حتى شرعت بفتح ملف الخبز، والخيارات المتاحة بشأنه.
وأغلب الظن أن الحكومة تميل للبطاقة الذكية التي طَرحت عطاءها فعلاً، كأداة جديدة لتوجيه الدعم لمن يستحقه.اليوم، تفكر الحكومة بالتخلص من الدعم الموجه لقطاع المياه، الذي ارتفع مع وصول مياه الديسي إلى عمان، خصوصا أن قيمة الدعم زادت نتيجة ارتفاع الكلف على الحكومة التي تشتري متر المياه من شركة "جاما" التركية بـ120 قرشا، فيما يباع للمواطن بـ 45 قرشا.تعديل تعرفة المياه قرار شبه متخذ، ولم يبقَ سوى الإعلان عنه رسميا، علماً أن مسؤولي قطاع المياه أعلنوا عن تعديل التعرفة غير مرة، تمهيدا لقبول الرأي العام للفكرة.بعد المياه، ربما تفكر الحكومة بالدعم الموجه لقطاع التعليم، والذي اعتبر في أكثر من تقرير رسمي شكلا من أشكال الاختلال الذي يشوه الموازنة العامة، ويزيد عجزها.
وربما تفكر الحكومة بعد ذلك بمعالجة تشوه الدعم المرتبط بقطاع الصحة.بعد انتهاء كل هذه الخطوات، ستنتهي كل التشوهات التي طالما أمطرتنا الحكومات بالحديث عنها، باعتبارها السبب الرئيس لعجز الموازنة العامة.لكنّ السؤال المهم: هل ستحل كل هذه الخطوات مشكلة عجز الموازنة؟ وهل ستعود مستويات هذا العجز لحدود طبيعية؟ وهل سيتراجع اعتماد وزارة المالية على الاقتراض؟ وكم ستتراجع المديونية؟ الإجابة للأسف هي: لا. فالمشاكل مستعصية، وليس الدعم هو المسؤول الوحيد عنها.
إذ ثمة تشوهات كثيرة في بنود الإيراد لم نسمع من الحكومة خططا لإصلاحها؛ كما لم تخبرنا بكيفية إصلاحها الاختلالات في النفقات.السؤال الأهم بعد كل هذه الزيادات في الأسعار: هل يمكن تقدير حجم العبء الإضافي الذي سيلحق بميزانية الأُسر؟ وهل من العدل والمنطق أن تعالج الحكومة مشكلة عجز موازنتها من جيوب الناس، وهي العاجزة عن تنشيط الاقتصاد وزيادة قدرته على توليد فرص العمل وتحسين المداخيل، بما يكفل تعزيز قدرة الأسر على امتصاص كل هذه الصدمات؟المشكلة أن التفكير الرسمي اقتصر على القرارات السهلة التطبيق، ثقيلة الكلف الاجتماعية؛ فاعتمدت على تحصيل إيرادات إضافية من جيب المواطن، أو تقليص ما تدفعه الحكومة دعماً له، فكان أن دفع المواطن الثمن بكل الأحوال.هكذا، يكون المواطن قد دفع ثمنا كبيرا للإصلاح.
ويبقى على الحكومة التوجه للجزء المهمل من إصلاح التشوهات الأخرى، باعتبارها العامل الرئيس لمشاكل الموازنة العامة.كثيرون يراهنون على فشل الحكومة في طرق أبواب أخرى للخروج من المأزق غير جيب المواطن، رغم أن كل ما تم لن ينهيَ المشكلة، كما لن يشعرَ المواطن بعد كل القرارات الصعبة التي أربكت حياته بأن المشكلة انتهت.لا أظن أن وزارة المالية تفكر، مثلا، بوضع موازنة للعام المقبل تكون موجهة بالنتائج؛ تقوم بالأساس على خفض الإنفاق. وليس بالوارد التفكير في إعادة ميزانية المؤسسات المستقلة إلى الموازنة العامة، لتوحيد نوافذ الإنفاق الحكومي بهدف الحد من الهدر.نتمنى أن لا تعيد حكومة النسور ما ارتكبته الحكومات السابقة، باجتزاء الإصلاح. فهي بذلك تعود إلى المربع الأول، وتختار الطريق الأسهل للحل؛ جيب المواطن.
الغد