لقد بعث الله الرسل وأنزل الكتب من أجل احترام الانسان وتكريمه ورفعة شانه ، وتزويده بالقيم والمبادئ التي تساعده على استعمال عقله بطريقه صحيحة ، وتوجه تفكيره ليكون مبدعاً في ميادين الخير ، وقادراً على مواجهة العوائق بكفاءة عالية حتى يكون سيداً على الأرض وخليفة فيها.
بعض الذين يحملون فهماً مغلوطاً للدين، وفقهاً ضحلاً لمبادئه وقيمة ومقاصده ، يجعلون منه تعليمات جافة وصارمة ، بعيدة عن التعليل وقدرة العقل على الفهم ، ويجعلون من الانسان آلة منفذة بلا وعي ولا ادراك ، وبلا هوامش للحرية في التصرف ، و عليه الاستماع ثم التنفيذ دون تعقّل أو وقوف على المقاصد والغايات ، وفي ذلك اعتداء على الدين ، واعتداء على الانسان معاً .
لقد خلق الله الانسان ابتداءً من أجل أن يكون مؤهلاً لمهمة الخلافة عن الله في الارض ، ومؤهلاً ليكون قادراً على حمل الرسالة الربانية الكريمة ، وحمل الأمانة الثقيلة التي تقتضي حفظ الحياة ، ورعاية الكائنات والتعامل مع الموجودات بطريقة سليمة قائمة على الفهم والوعي والادراك الذي تجعله قائماً بالاصلاح بعيدا عن الفساد والإفساد الذي ينتج عن الجهل والظلم الذي يقع فيه الانسان على الأغلب عندما يهمل الأخذ بالاسباب ،او عندما يتعمد مصادمة السنن!
أول مظهر من مظاهر التكريم الآدمي الذي ورد في قول الله القاطع المؤكد «ولقد كرمنا بني آدم» أن زوده بالعقل ، والعقل يعد أهم عامل من عوامل تمييز الانسان عن بقية المخلوقات ،والعقل يعرف بانه تلك الملكة والقوة المدركة التي تجعل الانسان قادراً على التمييز والفهم والادراك والوعي للأشياء والأمور حوله، من خلال منافذ السمع والبصر والاحساس والحدس، التي تجعله قادراً على الوصف والتحليل والتركيب والاستنتاج والتنبؤ وغيرها من القدرات .
تكريم الله للانسان يقتضي احترام عقله ، فليس من المعقول أن يكرّم الله الانسان بالعقل ، ثم يعمد الى إلغاء دور العقل ، لأن هذا الالغاء يعد من قبيل الإهانة المنتفية بالنص قطعاً ، ولذلك لا يجوز فهم الدين إلاّ في إطار التكريم والاحترام ، مما يجعلنا نفهم الدين على أنه مجموعة من المبادئ والقيم التي تخاطب العقل ، وتطور أداءه ، وتساعده على بناء المرجعية الجامعة التي تساعد التجمع البشري على مواجهة أعباء الحياة ،ولا يجوز طرح الدين على شكل تعليمات صارمة جافة لا تقبل الفهم ولا الادراك ولا التعليل ، مما يؤدي الى عدم التفريق بين العاقل وغير العاقل ، وعدم التفريق بين العالم والجاهل ، ولو كان الدين كذلك ، لما كان يفرض التكليف على العقلاء فقط ، وهناك قاعدة دينية تقول : (إذا أخذ ما أوهب أسقط ما أوجب ).
مظهر التكريم الآخر للآدمي هو تزويد الانسان بالإرادة ، والاستطاعة على الفعل وعدمه ، بمعنى آخر أن الارادة مرتبطة بالحرية ، مما يقتضي قطعأ أن الله جعل الانسان حراً منذ ولادته ، وينبغي أن يملك الحرية الكاملة والإرادة المطلقة على الفعل والترك ، دون ادنى عامل من عوامل القهر والإجبار ، لانه عندما يكون الانسان مقهوراً ، يصبح كائناً مثل بقية الكائنات المقهورة الأخرى التي لا تملك إرادتها وفقدت الاهلية لحمل الأمانة وأداء الرسالة .
الإرادة الحرة ضرورة من ضرورات (الابتلاء) الذي يعد من أهم الغايات التي خلقت من أجلها الحياة ، يقول الله تعالى :»الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً « وقال أيضاً: « إنا خلقنا الانسان من نطفة أمشاج نبتليه « ، فالابتلاء القائم على معنى الاختبار العادل يقتضي أن يكون الانسان حراً ، مطلق الارادة ، حتى يكون محاسباً أمام الله في الآخرة ، ولو كان مقهوراً مسلوب الإرادة لانتفى معنى العدل ، ومعنى الحساب والجزاء ...
مفهوم تكريم الانسان بالإرادة الحرة ، يقتضي على من يملك السلطة والنفوذ؛ أن لا يستخدم القوة لسلب الآدميين ارادتهم وحريتهم ،لأن ذلك منافٍ لمعنى التكريم، الذي شرعت السلطة للحفاظ عليه ، ولتهيئة الناس لمعنى الابتلاء الالهي العادل ، الذي يقتضي رفع كل عوامل القهر والاجبار ،التي تسلب الناس قدرتهم الحقيقية على الفعل وعدم الفعل .
من مظاهر التكريم الالهي للانسان أن سخر له كل ما في السموات والارض؛ لمساعدته على القيام بواجب الامانة ، ولكن هذا التسخير يقتضي من الانسان اكتشاف النواميس التي تحكم الكون ، والوقوف على السنن التي بني عليها الوجود ، ولن يستطيع الإنسان اكتشاف ذلك الاّ بالعلم ، ولا طريق للعلم الاّ بالعقل وإلارادة معاً .
إننا أمام حقيقة مذهلة مفادها أن كرامة الانسان واحترام ارادته وحريته يعد عنوان الحياة وإطارها ومضمونها ، وهذا ما يجب أن يدركه العلماء والفقهاء ، وكل المبشرين بالدين ، كما يجب أن يدرك ذلك السياسيون وأصحاب السلطة ، وكل من يحتل موقعاً ادارياً في الدولة مهما كان كبيراً أو صغيراً .
الدستور