عبرت الأزمة السورية في ثلاث محطات أساسية, الاولى معركة حمص (باب عمرو) و التلويح بتقسيم سوريا. المحطة الثانية شهدت الانتقال الى دمشق عبر ضرب خلية الأزمة و التلويح بتقسيم الجيش السوري. أما الثالثة فكانت في حلب و التي هدفت الى التلويح بالحرب الاقليمية. أما التصعيد الأمريكي الأخير فأدخل الأزمة السورية محطتها الرابعة و الأخيرة و عنوانها "التلويح بالحرب الدولية".
بغض النظر عن شكل و تداعيات التصعيد الأمريكي الأخير, سواء اتجهت المعادلة نحو المواجهة المفتوحة او المحدودة, الا ان فكرة التلويح بالحل العسكري دفعت بالأزمة السورية الى نقطة مفصلية لا يمكن العودة عنها, و بالتالي فان النتيجة المنطقية تعني وصول المسألة السورية الى مرحلة الحسم, و اقتراب وضع الأزمة على طاولة الحل. الموقف الأمريكي الساعي لتأزيم النظام في سوريا و ايصاله الى حد الانهاك, لم يحصد أي نتائج ايجابية,فبعد أكثر من سنتين من التأزيم جاءت النتائج بعكس المشتهى الأمريكي التي تجلت في الرسائل الرمزية عبر تجول الرئيس الأسد في داريا و ظهور الأمين العام لحزب الله بين الجموع في ضاحية بيروت الجنوبية, عداك عن السبب الرئيسي و هو انجازات الجيش السوري على الأرض في سوريا و التي استدعت اعادة انتاج معادلة موازين القوى على الأرض عبر التلويح بالتدخل العسكري الأمريكي, الأمر الذي تؤكده بعض التصريحات الأمريكية و الفرنسية المتقاطبة و التي تشير الى ضرورة اضعاف النظام و تقوية المعارضة من أجل الوصول الى الحل.
في المقابل اتسم الموقف الروسي بحالة من الغموض, الكثيرون تسائلوا عن طبيعة الرد الروسي على التصعيد الأمريكي, حيث وجد البعض في الموقف الروسي موقفاً خاذلاً نوعاً ما. الحقيقة ان السياسة الروسية اتسمت بدبلوماسية عالية, و حراك ديناميكي غير منظور. فعلى الصعيد الدبلوماسي استطاعت الدبلوماسية الروسية اختراق منظومة حلفاء الولايات المتحدة عبر بوابة السؤال الأكثر منطقية, هلى يحل العدوان العسكري المشكلة ام يفاقهما؟ بالإضافة الى انتهاج موسكو مبدأ الحفاظ على الشرعية الدولية و ضرورة الالتزام بنتائج تحقيقات لجنة الأمم المتحدة. في المقابل عملت روسيا على تعزيز الغرور الأمريكي عبر التعامل بجدية عالية مع التهديدات الأمريكية, لا بل اعطت الانطباع ان الماكينة العسكرية الروسية تفضل عدم الانخراط في مواجهة الآلة العسكرية الأمريكية, و أن كلمة الفصل ستكون للولايات المتحدة. ضمن هذا السياق تشير كثير من القراءات الى رغبة روسية حقيقية بتوريط الولايات المتحدة بحرب جديدة, نظراً لانعكاسات مثل هذه الحروب على قدرة الولايات المتحدة و انعكاساتها الايجابية على روسيا و التي تجلت في حربي أفغانستان و العراق.
الولايات المتحدة دخلت في طريق "اللاعودة" فيما يتعلق بالأزمة السورية. الولايات المتحدة اختارت دخول هذه المرحلة عبر بوابة استخدام الغاز الكيميائي المرتبطة واقعياً "بثوابت أخلاقية" يمكن الارتكاز عليها عند الحديث عن ضرورة التدخل العسكري. لكن, منطقياً لا يمكن للولايات المتحدة أن تغامر بمراوحة الأزمة السورية مكانها, فالولايات المتحدة معنية تماماً بحسم الأزمة في سوريا بعد عدة عوامل أساسية, منها:
- فشل كل محاولات اسقاط النظام من الداخل سواء عبر التأزيم الداخلي او توظيف الأدوات الاقليمية.
- فشل العمليات الاستخباراتية في توجيه ضربة نوعية في سوريا تؤسس لانطلاق سياسي وفقاً للرؤية الأمريكية.
- استحالة انجاز تغيير في معادلة موازين القوى على الأرض السورية بانتهاج اسلوب اطالة أمد الأزمة.
- تبلور حلف معادي لأمريكا يمتد من لبنان الى موسكو مروراً بسوريا و العراق و إيران الأمر الذي يحتم فكرة ضرب مركزية هذا الحلف.
- فشل الحصول على اي منطقة محررة في الداخل السوري, تكون نواة لمفاوضات نوعية أمريكية.
- عدم قدرة القوات المدعومة من الحلف الأمريكي على احداث تغيير نوعي أو انجاز عسكري حقيقي.
- فشل سيناريو خنق حزب الله, و عبور الحزب الى بوابة الحلف الدولي عبر الأزمة في سوريا.
- العمل العسكري وفقاً للنظرة الأمريكية قد ينهي وجود الرئيس الأسد الأمر الذي يمكن تفسيره بعدم رغبة الولايات المتحدة و حلفاؤها التعامل مع شخص الرئيس.
- ضرورة توجيه ضربة عسكرية قوية لواحدة من اهم تشكيلات الجيش السوري, و التي تسعى الولايات المتحدة اليوم لربط مسألة استخدام الغاز الكيميائي بهذا التشكيل مما يشرعن "أمريكياً" توجيه مثل هذه الضربة.
- اختلاط الأوراق فيما يتعلق بالتنظيمات الارهابية و انتشارها, عداك عن حالة التفريخ المستمر و السريع لهذه التنظيمات الأمر الذي يشير الى خطورة انقلاب المشهد و الدخول في خانة استهداف المصالح الأمريكية.
- فشل حلفاء الولايات المتحدة بإدارة مشهد الأزمة في الداخل السوري, بدءً من تركيا و قكر و وصولا الى السعودية اليوم.
- لكن تبقى النقطة الأهم أمريكياً الآن هي ضرورة ان تعيد الولايات المتحدة هيبتها الدولية و تعيد بناء صورتها بصفتها صاحبة كلمة الحسم في أغلب الأزمات, خصوصاً في الشرق الأوسط.
هذه المعطيات تشير منطقياً الى ضرورة وصول الولايات المتحدة الى نقطة التفجير هذه, و التي قد تأخذ صورة الضربة العسكرية. أما مسيرة المشهد الدولي فسارت بطريقة تضع مسؤولية الأزمة و التعامل معها في الحضن الأمريكي, خصوصاً بعد انسحابات بعض حلفاء أميركا من المشهد و معارضة البعض الآخر.
لكن يبقى السؤال الأكبر مرتبط بقدرة المنطقة و العالم على التعامل مع تداعيات ما بعد الضربة. فكميات السلاح التي عبرت في المنطقة خلال السنوات الثلاث الماضية لا يمكن ان تمر دون عواقب. عداك عن شكل و نوع التنظيمات الارهابية الجديدة التي باتت تنظيمات عابرة للحدود و قادرة على الضرب في مختلف المناطق. يضاف الى ذلك المناخ الاقليمي السائد اليوم المشحون بحالة عالية من الحقد و الكراهية و النظرة الطائفية. لهذا فالرهان على فكرة الضربة المحدودة قد يكون رهان خاسر يدفع ثمنه الجميع دون استثناء.
أما اسباب التأجيل الأمريكي للهجوم العسكري فقد ترتبط برغبة الرئيس أوباما باستثمار هذا التلويح العسكري سياسياً عبر لقاء الرئيس بوتين بطريقة غير مباشرة ضمن اجتماعات G8 القادمة في موسكو و بالتالي الحديث في الشأن السوري ضمن معادلة جديدة. الولايات المتحدة تسعى لطرح سيناريو انتقال السلطة في سوريا, فالتلويح بالعمل العسكري يمثل هي رسالة على صعيدين. على الصعيد الدولي هي رسالة موجهة لحيف سوريا الأكبر روسيا, و تشير الى ضرورة التعامل بجدية أكبر مع الرؤية الأمريكية للحل في سوريا. اما على الصعيد الداخلي السوري, هي رسالة موجهة للمؤسسة العسكرية السورية و تشير الى ضرورة التعامل الجدي مع الواقع الأمريكي الجديد و التسريع و المساهمة بشكل الانتقال السياسي. هذا ما يفسر المناخات السياسية السائدة في أروقة مجلس الأمن و التي مازالت تتحدث عن ضرورة الوصول الى "جنيف2".