الليبرالية الجديدة وانسداد الآفاق
د.مهند مبيضين
16-01-2008 02:00 AM
وقفت شابة في وسط الجامعة الأردنية صباح يوم الخميس 5/4/2007 لتشارك أصدقاءها في فعاليات أسبوع ثقافي بعنوان "حياتي أحلى"، يقدم في هذا الأسبوع وصفا للحياة الأمثل للشاب العربي من خلال توضيح كيفية تخطيطه لحياته مع بعض الإرشادات الصحية وقليل من الهدايا، آنذاك كانت تصر إدارة الجامعة على تعيين نصف أعضاء مجلس طلبة الجامعة الأردنية بطريقة تعود للعصر العثماني قائمة على إصدار فرمان من رئيس الجامعة يقرر فيه تعيين نصف أعضاء مجلس الطلبة، وذلك من اجل ضمان تمثيل كافة شرائح الطلبة، لكن ليس بالاقتراع بل بفرمان رئاسي، مشفوع بمبررات تستند إلى دراسات وبحوث أعدت للتأكيد على شرعية الإجراء. وفي النهاية يرى القائمون على الفكرة أن حياة الشاب الجامعي تبدو أكثر تقدما من الانتخابات الكاملة والممارسة الديمقراطية التي وجدت دائما في الجامعات حاضنة أمثل لترسيخها!. هو إذن إقناع بأن الحياة ربما تكون أجمل دون حصول الفرد على حقوقه الوطنية، التي تميز بين المواطنة وبين الإقامة، بين أن تملك هوية وبين أن تحمل رقما وطنيا، بين أن تمثل بحق وبين أن يكون الناطق باسمك مقاول...الخ!!!!
يكتب المصري مدحت محفوظ، ابرز المدافعين عن فكرة الليبرالية الجديدة في مصر أن الحل بدولة يقودها جمال مبارك في المستقبل لا يعد كافيا لإحلال النموذج الليبرالي، بقدر ما تحتاج الحالة المصرية إلى إلغاء نظام التعليم المجاني وتحرير الاقتصاد وإلغاء الضرائب وفتح الأسواق، وفي المقابل، يزداد الإقبال على متاجر جماعة التوحيد الإسلامية المنتشرة بكثرة؛ وهي تمثل النقيض لاستثمارات الاقتصاد المفتوح، وهي تجني أرباحا بشكل كبير دون الحاجة لمخططين واستشاريين وخبراء اقتصاد دولي.
في الأردن عُدّ المقال الذي كتبة وزير الاتصالات السابق فواز الزعبي ابرز مروجي فكرة الليبرالية الجديدة، من أهم المدونات التي بشرت بالفكرة الليبرالية، وأثار جدلا في حينها وفتح الباب أمام السجال عن جدوى الليبرالية الجديدة في بلد موارده محدودة، وليس له قوة وسوق مثل ماليزيا. كان الحديث آنذاك يصور الأردن وكأنها الصين، وكان الجدل آنذاك بين اتجاه ليبرالي وطني، وتيار اقرب إلى اليسار القومي، واصطف التياران في مواجهة الليبراليين الجدد اللذين ارتبط ذكرهم بالمحافظين الجدد، وهم من الليبرالية الحقة براء.
انتهت تلك السجالات فيما يبدو مع فشل تيار الليبرالية الجديدة في الأردن، وتراجع رموز هذا التيار عن المسرح العام، لا بل فشل بعضهم وغادر او سقط في المواجهة فجند له من يتحدث عن ضرورته كأداة من أداوت تأثيث الدولة العصرية، ولكنهم في واقع الأمر ما انفكوا في الدفع نحو المزيد من انفتاح سوق الدولة، ورفع يدها عن الضمانات الاجتماعية وتخصيص المؤسسات، في الوقت الذي يزداد فيه النظام الاقتصادي عجزا في القدرة عن تلبية احتياجات الفرد وتنامي الفوارق بين مراتب المجتمع.
يحدث الأمر ذاته في مصر، انفتاح السوق، وتحرير قطاعات واسعة من مؤسسات الدولة، وتنامي المشكلات الاجتماعية المتعلقة بحقوق المواطنة، وارتفاع وتيرة الاحتجاج الذي أصبح سلاحا أقوى من سلاح صندوق الاقتراع، كما ظهر قبل عام في الاستفتاء على وجبة الإصلاحات الدستورية التي قيل إنها للحد من العنف والتطرف.
عربيا، ليس هناك مستقبل أفضل من ذاك الذي صوره الليبراليون الجدد لمجتمعاتهم: دولة لا تتحمل مسؤولية شيء، نظام ضرائبي تصاعدي، انتشار واسع لتلفزيون الواقع، رواج لأفكار اقتصادية وإغداق في الخطط التنموية وتبدل في أسبقيات الإصلاح، والتغيير المستمر في الخطابات السياسية. وتسابق للمقاولين والشركات الأميركية التي هرمت أو تعاني من فضائح اجتماعية في مجتمعها على التقدم لبناء الأسواق العربية، ولم يطل الأمر هذا حد السوق، بل نفذ للتعليم العربي فبات يُطور على يد خبراء المقاولات التعليمية. وفي الواقع لا تسهم أي جامعة عربية وطنية بصناعة شخصية الطالب إلا في النموذج الذي اشرنا إليه أعلاه عبر "حياتي أحلى".
تفيد تاريخية الليبرالية المحدثة عالميا أنه وفي التاسع من نوفمبر عام 1989 انهار جدار برلين بالكامل ولم يكن هناك مؤشر يوحي بالحدث، ومنذ ذاك الحين انقلب الأمر رأسا على عقب؛ فالاقتراحات التي بدت معقولة وسليمة في الزمن السابق على انهيار الجدار، أمست ضلالا بيناً، وخطأً جلياً بعد انهيار الجدار، وما كان ضلالاً وخطأً جلياً في الزمن السابق على انهيار الجدار، صار معقولاً وسليماً بعد ذاك الحدث العظيم، ومنذ ذاك، أضحت الليبرالية الجديدة تصول وتجول زاعمة أن الانفتاح الاقتصادي هو أفضل الخيارات المتاحة للشعوب.
بدأت الليبرالية العربية كتيار فكري مبكرا مع رواد كبار أمثال رفاعة الطهطاوي وطه حسين واحمد لطفي السيد، لكن تلك الليبرالية لم تترك أثارها أو لم يتح لها الفرصة، إذ جاءت الثورات والانقلابات العربية والحروب لتمزق ذاك التفاؤل الكبير الذي كان ممكن أن يضعنا على الطريق، ليستفيق العرب في عام 1990 على دخول غير شرعي للعراق في الكويت، وما تلاه من تصدع للخارطة السياسية العربية. ولكن المهم ليس هذا الحدث، وليس فيه شيء يمكن أن يؤرخ لليبرالية العربية الجديدة، التي يمكن القول أن انطلاقاتها كانت عقبه مباشرة، إذ لحقت به.
أطل الليبراليون الجدد عربيا بعد بقايا لوحة زلزال حرب الخليج الثانية غير الموفقة. حملوا أحقادهم على الوطنية والقومية والاشتراكية، وهناك من تحول فكريا نحوها، ودبجوا مقالات المديح في اقتصاد السوق، والعولمة، والنظام الدولي الجديد، بشروا بالحلول الكبرى وسياحة الشرق الأوسط الكبير منهم من أيد الحرب على العراق، والمشكلة الأكبر أنهم اقنعوا الدولة بأنهم وحدهم القادرون على فهم متطلبات الإصلاح.
ثم جاء التقاء العرب مع الإسرائيليين من اجل مصالحة تاريخية في مدريد، برعاية أميركية وروسية وأوربية، وتلا مدريد اتفاقي "أوسلو" و"وادي عربة"، ودعاوى "الشراكة الإقليمية" في ظل نظام "الشرق الأوسط" على نحو ما عبرت عن نفسها في "مؤتمرات التنمية" لدول "الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، التي عقدت في الدار البيضاء وعمان والقاهرة وغيرها.
كان ذلك الزمن هو ربيع الليبرالية الجديدة، الكل يحلم بربح سريع، وجني ثمار السلام، وبناء فنادق ومنتجعات. وبدا الظرف مدعاة لرواج أفكار الليبراليين الجدد عربيا، ممن زوقوا للنظم السياسية ضرورة الإسراع في الإصلاح وتحرير الاقتصاد، وهو ما انتهى إلى نتائج وخيمة بعد نحو عقد ونصف على انطلاق عملية السلام في مدريد، فلم يعد لدى المرء سوى سوء الأمل في أن يكون ثمة متسع من الوقت للعودة بالواقع الذي كان سائدا والحيلولة دون سوء العاقبة، فالمجتمع العربي صار ينظر إلى أن وعود الليبرالية الجديدة مزقت الأمل، وصارت تسلبه كل أمنياته في غد أفضل.
على رغم الواقع المأزوم لليبراليين الجدد العرب، إلا أنهم متمسكون بمقولاتهم، ومبادئ آدم سميث مؤسس الفكرة الليبرالية التي جاءت نظريته بها، وكانت تهدف أساسا إلى استثمار رأس المال بأكبر ربح ممكن، وان يحاول كل مواطن استثمار أمواله في اقرب مكان من موطن سكنه.
روج الليبراليون لهذه الفكرة في محاولة لجني ثمار الربح الاقتصادي، تحولت دمشق أو في طريقها لأن تكون مطعما كبيرا، وأبيدت رموز المدن في محاولة لتكرار نموذج السولدير اللبناني في أكثر من بلد، وحتى الغابات الوطنية بيعت أراضيها لصالح مشروعات جذب سياحي، وكذا الحال مع مساحات واسعة من اراضي طريق الحزام حول القاهرة. الجميع يريد أن يربح بسرعة بحجة انه مال عربي، الجميع يريد تحويل أراضيه إلى شقق فندقية تنتظر ضيوفا غير مدعوين للحضور، لكن يجب إسكانهم وتقاضي أعلى الأجور منهم.
ثمة فراغ يتشكل إذن، هذا الفراغ يملؤه المواطن الذي خابت آماله، وثمة رفض داخلي ينمو خلف كل إعلان تدعو فيه الهيئات والصناديق الممولة من عوائد الخصخصة المواطنَ العربي للحد من الإنجاب بحجة المستقبل الأفضل للأبناء. يحدث هذا في الوقت الذي كرس فيه الليبراليون العرب ضرورة تعميق مفهوم "تعليم النخبة" والبقية عليها أن تذهب إلى الشارع.
ما من شك أن أسوأ ما انتهت إليه قوى الليبرالية الجديدة هو قبول مبدأ التعاون مع قوى الضغط الدولي، والتسويغ لشرعية التدخل الأجنبي لإسقاط أنظمة حاكمة بدعوى استبداديتها وعدم قدرة المعارضة أو الحركة الشعبية على تغييرها بقواها الذاتية. ولقد وجدت في سابقة التعاون لدى المعارضة العراقية سابقاً (الحاكمة اليوم في "المنطقة الخضراء" من بغداد) أنموذجاً تبني عليه دعواها وتبرر به "فوائد" هذا الخيار السياسي لاختصار طريق التغيير.
ليس كل الليبراليين العرب في فسطاط واحد، فثمة من أمسك بعروتها بشرف ووطنية، ودافع عن مشروعه الليبرالي بشجاعة مصطفاً مع شعبه وقواه الديمقراطية الوطنية. بل إن مساوئ الفكرة أتت من زمرة الليبراليين التي لم ترث من تراث الليبرالية العربية إلا اسمها. هم من بشر بطريق وردي لاقتصاد حر ونعم لا تحصى من جني الأرباح.
تغنى الليبراليون الجدد بمزايا منظمة التجارة العالمة وفوائد تحرير التجارة واتفاقية الجات، وفوائد الدخول في إصلاح هيكلي للاقتصاد العربي عماده الخصخصة، غير أن ذلك الاقتصاد لم يفض إلا إلى المزيد من الفقر.
يقول هورست أفهيلد في كاتبه "اقتصاد يفيض فقرا": "يسير بنا المنهج الإصلاحي المهيمن الذي يتغنى بمنظمة التجارة العالمية والداعي إلى تقليص مدفوعات الرعاية الاجتماعية وخفض الضرائب والإنفاق الحكومي وخفض الأجور صوب الكارثة بخطى حثيثة فعلا".
أردنيا تصاعد الجدل مؤخرا بين الليبراليين، وبين تيار وطني، ومع أن ثمة شرعية للخلاف إلا أن ثمة جدلا يدور اليوم في اتجاه آخر، هناك أصوات لم تتخذ صفة التيار بعد، ملخص قولها، أنها تفهم الإصلاح، وتعرف من أين البداية، ولا صلة لها بشركات كبرى، بقدر ما لها صلة مع تجاذبات فكرية، راسخة في مشروع النهوض العربي، هذه الأصوات قد تسير إلى الأمام بقوة، وهي لن تنساق إلى جدل أحادي، بقدر ما هي مرشحة نحو التفوق على غيرها لان أدوات إنتاجها مختلفة عن الآخرين.
ختاما، آلت خطط ودعوات الليبرالية العربية إلى حبر على ورق، لم يحدث شيء، تعاظم الفارق الطبقي، تحول المواطن إلى زبون، فقد الفرد الرغبة في الخلق والابتكار، وعجزت الحكومات عن إدارة أموالها، تضخمت الأسعار، تتحمل الدول نفقات هائلة جراء سياسات جذب الاستثمار، تفوح رائحة الفقر بشدة في أحياء الدار البيضاء والقاهرة ودمشق وعمان، وانسداد الأفاق هو العنوان.
بالعودة إلى مقالات الملك عبدالله الثاني التي جاءت بعنوان "الطريق إلى الإصلاح" و"الإصلاح أولويتنا" وغيرها، ثمة نظرة عميقة للتحديث، تحديث من الداخل، واصلاح نابع من الموروث العربي الإسلامي، ومن يقرأ فالمقالات موجودة على موقع جلالة الملك، لكن المشكلة هي في من فهموا أن الإصلاح المنشود هو مجرد Power Point . وفي حين أراده الملك خيار حياة جديد تكفله الدولة وتحميه وترعاه، رآه الليبراليون الجدد انسحابا للدولة من مهامها وترك الناس فريسة للشركات العابرة.